لا أخفي تَأَثري بالأستاذ الكبير -الرئيس السابق والمُفَكّر الفيلسوف- علي عزت بيجوفيتش رحمه الله؛ تأثري بفكره وكتبه وأطروحاته، وقبل ذلك كله مواقفه المبادئية وشخصيته القيمية والأخلاقية. ولعل السرّ  في شخصية هذا الأستاذ -الذي يصفه الدكتور عبدُالوهاب المسيري بأنه ظاهرةٌ فريدة في تاريخ الإسلام- هو اتصاله المباشر بالقرآن العظيم، فكره المؤسس على القرآن، واتخاذه القرآنَ  مرجعيةً حقيقيةً ونقطة انطلاق؛ فهو ينهل منه مباشرة بلا واسطة، وله اجتهاد خاص في فهم بعض الآيات. ولا يمكن لمن يقرأ بيجوفيتش أن يُخطئ صدى القرآن، وأثره في أطروحاته تصريحا أو إشارة. وهنا كلماتٌ  يسيرة حول القرآن في فكر الأستاذ لعلها تكشفُ   بعضَ  جوانب هذه العلاقة التي طالما استوقفتني؛ لأن مسيرتَه الفكرية والعملية -كما أَفهَمُها- محاولةٌ  جادة لتحقيق رؤية قرآنية واقعية في ضوء ظروف معقدة جدا من قِبل شخص لم يكن مفكرا فقط وإنما رئيس دولة كذلك.

١. القرآن رفيق الحياة

يُحَدّثنا الأستاذ علي عزّتْ  في بداية سيرته الذاتية (أسئلة لا مفرّ منها) عن أثر أُمّهِ في تربيته، وكيف كانت توقظه لصلاة الفجر ليصلي خلف الإمام الذي كان يتلو سورة الرحمن في الركعة الثانية من الفجر؛ يصف تلك الذكريات بقوله: "كانت كلها صورا جميلة مازلت أراها بوضوح من بين ضباب السنين التي مضت"؛ فالقرآن كان حاضرا معه منذ الأيام الأولى، وهو لا ينسى الأثر الجميل الذي تركته فيه سورة الرحمن. وفي مقال له بعنوان (كيف نقرأ القرآن) يتحدث الأستاذ عن اختلاف أثر القرآن في حياته الشخصية باختلاف مراحله العمرية؛ ففي مقتبل عمره كان يتوقف عند الآيات التي "تتحدث عن العمل والجهاد والعدالة"، ثم لما تقدّم به العمر كانت تستحوذ عليه الآيات التي "تتحدث عن الله سبحانه وتعالى، وبهرجة هذه الدنيا وسرعة زوالها، أي: الآيات التي تحث على التأمل وليس على الحركة". ولما ماتت أمه -رحمها الله- كان لا يفارق سورةَ  الفجر وقولَ  الله سبحانه: (يا أيتها النفس المطمئنة؛ ارجعي إلى ربك)؛ فلم يجد سلوانا خيرا من هذه الآية، وكان يتساءل: "من يمكنه أن يُقَدّم للإنسان كلمةَ  عزاء أبلغَ  من هذه الكلمات؟"

٢. منهجٌ  في قراءة القرآن

"لقد قرأت القرآن مرات ومرات، ولكنني لم أتساءل قبل اليوم: كيف يجب أن نقرأ القرآن فعلا؟" كان هذا أحد الأسئلة التي شغلت الأستاذ، وهو سؤال محوري ومركزي جدا في التاريخ الإسلامي الحديث، وفي واقعنا المعاصر. وللإجابة عن هذا السؤال قدم لنا الأستاذ بعض التّأملات والمسالك المنهجية؛ منها: أولا: أن ننظر للقرآن نظرة كلية،  أي أن لا تؤخذ الآيات منفردة عن بقية الآيات ومختزلة عن السياق الكلي للقرآن؛ "لأن القرآن فقط إذا أخذ كاملا يعطينا الحق كاملا"، ولعله هنا يشير إلى قوله سبحانه: (وتؤمنون بالكتاب كله)،  وقوله تعالى: (الذين جعلوا القرآن عضين). وثانيا: يرى الأستاذ أن اكتشاف ما يسميه "إشعاع النور القرآني" يتأتى من خلال المداومة على تلاوة القرآن الكريم مع فواصل زمنية ضرورية؛ "لأن كل قراءة جديدة للقرآن ستكشف لنا شيئا جديدا". وثالثا: فيما يتعلق بتفعيل القرآن في الواقع؛ يرى أنه لابد من مراعاة الظروف التاريخية والسياسية للمجتمعات؛ "ففي المجتمع الذي تُمزقه التفرقة العنصرية تعطى الأولوية للآيات الدالة على مساواة جميع الناس"، وفي المجتمعات التي تنتهك فيها الحقوق؛ لا بد أن يبرز قول الله: (لا إكراه في الدين). ورابعا: لا يغفل الأستاذ أثر الإيمان في فهم القرآن حيثُ يقول: "فكل إنسان سيجد في القرآن من المعاني بقدر منزلته وإيمانه"، وكلامه هذا إنما هو صدى لقوله تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله).

وله نظرات كذلك حول تفسير القرآن وكتب التفسير؛ فنجده يؤكد في خواطر السجن (هروبي إلى الحرية) على أنه لابد من توظيف الحديث لفهم أفضل للقرآن، وعلى أن تفسير القرآن على مبدأ النفعية= يؤدي إلى انحرافات خطيرة، وأن العمل خير دليل على الصدق في تفسير القرآن؛ فالتجربة "المثبتة والمعلنة (العمل) أصدق في تفسير القرآن ومعانيه من الحديث الذين يمكن أن يكون صدقه موضعَ شك"، ويشير كذلك إلى أهمية الإبداع في تفسير القرآن؛ فقد كان تفسير القرآن "حرا منذ البداية، لكن عملية التفسير الإبداعي (الرأي) تحددت تدريجيا بالسنة والقياس والإجماع [...] حتى تم تجميدها بنظرية إغلاق باب الاجتهاد"، ويذكر في هذا السياق أن "المظهر المميز لركود الأفكار الإسلامية هو ظاهرة كتابة التفسير على التفاسير  [لعله يقصد كثرة الحواشي]، في الوقت الذي ضاعت فيه في طوايا النسيان الأعمال الأصيلة، والتي كانت موضوعا للتفسير" ، وبالتالي لم يبق هناك "مفسرون كبار للقرآن" وإنما آلاف الحفظة.

3. المعرفة الإنسانية في ضوء القرآن

من أهم ما يميز فكر الأستاذ بيجوفيتش هو نظره إلى المعرفة الإنسانية من خلال المنظور القرآني، وربطها بالقرآن العظيم؛ فالمرجعية العليا -آيات القرآن- واضحة تماما لديه، وهي تشكل له الرؤية الكونية التي يرى من خلالها الحياة، وتمثل النموذج المعرفي الذي يمتحن به الأفكار والأطروحات، والميزان الذي يزن به الخطأ والصواب؛ يقول الأستاذ مُعبِّراً عن هذه الرؤية الكلية: "القرآن والإسلام هما العنصر الذي يعيش فيه العالم"، ويقول كذلك: "القرآنُ  ليس كتابا أدبيّا، وإنما هو حياة"، بل وفي إحدى حواشي (الإسلام بين الشرق والغرب) نجد كلمةً  تعبر عن منهج كامل في التعامل مع القرآن كسبيل للكشف والوصول للحقيقة؛ يقول رحمه الله وهو يناقش إحدى الأفكار: "في جزء كاشف جدا من القرآن.." ثم يذكر الآية. نعم؛ القرآن يكشف.

ومن أكثر العبارات التي استوقفتني من خلال قراءة بيجوفيتش= عبارةٌ  تتكرر عنده، وهي قوله: "قارن مع القرآن"؛ فهو يقرأ الأدب الروسي، والحكمة اليونانية، وكتب هرمان هسه، ومذكرات إمرسن، والفلسفة الألمانية، وعلم الاجتماع ثم يقارن مع القرآن، أي أنه منشغل بعملية مقارنة مستمرة مع مرجعيته العليا؛ "قارن مع القرآن" ليست كلمة عابرة، ولكنها تعبر عن رؤية قرآنية عميقة.

وهناك أمثلة كثيرة في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب) تبين لنا كيف يستدل بالقرآن، ومتى يستدل به، وكيف ينتزع المعنى القرآني، وكيف يربط بين القرآن وبين الواقع، وألاحظ أنه في أحيان كثيرة يناقش فكرة ثم يختم الفقرة بآية من القرآن في المتن أو في الحاشية، وتلك إشارةٌ  منهُ  إلى أن مرجعيته النهائية هي القرآن؛ فالأستاذ -على سبيل المثال- يطرح قضية الحرية والإثم في ضوء: (وما أبرئ نفسي)، ويناقشُ   أثرَ  الرفاهية على النظام القيمي مستدلا بقول الله: (ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا)، والفلسفةَ  العدمية في سياق: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا)، وقيمةَ النية وما يترتب على ذلك من التقاء الفن والأخلاق والدين من منظور: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب)، وقدرةَ الإنسان على الاختيار ومبدأ الحرية في إطار: (لا إكراه في الدين)، واستحالةَ المجتمع المثالي مستدلا بقول الله: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو)، كما يوضح لنا -في استنباط جميل- أثر الممارسة الأخلاقية في تقوية الإيمان من خلال: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).

وأختم بمثال أخير: يذكر بيجوفيتش في خواطره أنه يوجد أناسٌ    لا يملكون ذرة من الكرامة والاحترام الإنساني، ويستشهد بقوله سبحانه: (إن هم إلا كالأنعام؛ بل هم أضل سبيلا) ثم يقول: "ويمكن لمن أمضى بعض الوقت في السجن مع المجرمين ... أن يتثبت من ذلك" ؛ فكأنه يشير إلى أن المعنى القرآني تؤكده -في نفس القارئ- التجربة، وهذا يُذَكّرُني بكلمة للشيخ محمد البشير الإبراهيمي: "القرآن كتاب الكون؛ لا تُفسِّره حقَّ التفسير إلا حوادث الكون. والقرآن كتاب الدعوة؛ لا تكشف عن حقائقه العليا إلا تصاريف الدهر"، ولعلي أُضيفُ  إلى ذلكالتجربة الشخصية.

٤. خاتمة

القراءة باسم الله في قوله سبحانه: (اقرأ باسم ربك) تعني ذكرَ  اسم الله عند القراءة، وأن يقرأ القارئُ  مستفتحا باسم الله، مستعينا به، وبإذنه سبحانه. وهي تشمل كذلك بالإشارة -والله أعلم بمعاني كتابه- أن يكون تحصيلُ  المعرفة مُوَجّها ضمنَ إطارٍ  كُلّي قرآني، أي: أن تلاحظ وجود الله في كل ما تقرأه وتتعلمه، وأن تكون المعرفةُ خادمة لهذه الرؤية الكونية المتصلة بالسماء؛ يقول ابن عاشور في هذا السياق: (اقرأ ما سيوحَى إليك مصاحباً قراءتَك (اسمَ ربك)؛ فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله).

الأستاذ علي عزّتْ  من المُفَكّرينَ  الرُّواد الذين الذين قدموا رؤية قرآنيةً  واقعية معاصرة فلسفية.. هو من الأساتذة الكبار الذين كانوا يقرؤون الحياةَ باسم الله، ويخوضون غمار المعرفة بشتى فروعها باسم ربهم.. وإنني أشعر أنَ لعلي عزت أسرارا مع القرآن خفيت علينا.. لم تُحكَ  لنا ولن نعرفها.. ولكنْ  حسبُه أن الله يعلم.. وكفى بالله شهيدا.

طارق مقبل.

كامبردج؛ الأحد 19 رجب 1438.