الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لقد أخبر الله تعالى ملائكته بخلق آدم عليه السلام ليكون مخلفا وخليفة في الأرض ، فسألت ربها بحكم تجربة إفساد سابقة فيها حسب بعض الروايات التاريخية التـفسيرية، لكن الله تعالى أثبت أهلية آدم بتعليمه أسماء الأشياء فأذعنت الملائكة ، ثم توالت العلوم تترى ومنها أول علم وهو كيفية الدفن ، قال الله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} سورة المائدة
ثم انبرت البشرية تتعلم وتكتشف ، إلى أن تشعبت العلوم كثرة ، وبعد أن كان العالم الواحد يمكن له الإلمام بمجموعة منها لعمومها ، أصبح لا مفر من التخصص لاستحالة الإلمام بـها كلها لدقتها ، وراح القائمون عليها يصنفونـها أنواعا وأقساما ، فسميت لنا علوم الرياضيات وعلوم الفيزياء وعلوم الشريعة وعلوم الفلك وغيرها مما لا يحصى كثرة ، وإن كان علماء الغرب والشرق من الأمم الأخرى توسعوا في التصنيف ، وأصبح كل علم مستقلا بأصوله وقواعده ، فإن علماء المسلمين الذين كان
لديهم بوتقة يلمون داخلها شعث العلوم ، انساقوا وراء النهج الغربي والشرقي في ذلك ، فرأينا وسمعنا التـفريق بين العلوم الشرعية ، أوالعلوم الدينية ، أوالعلوم الأخروية من جهة، والعلوم الدنيوية ، أوالعلوم الكونية من جهة أخرى ، ووقع تحت صنـف العلوم الشرعية علوم العبادات وعلوم العادات أوالمعاملات.
ولعمري إني لأراه منـزلقا على مستوى الفهم والعلاقة العلمية والنفسية مع الكون والحياة والإنسان، لأن الأمم الأخرى وإن صدر منها تصنيفها الخاص للعلوم فهو متناسق مع النظرة إلى الكون وعلاقة الإنسان به ، مع النظرة إلى الخالق من انعدامه وعلاقة الفرد والمجتمع به ، فالملحد الذي لا يرى للكون خالقا نجد تصنيفه متناغما مع معتقده ، والعلماني الذي لا يرى للتشريع سلطة على الناس نجد كذلك تصنيفه متجانسا مع فكرته تلك ، وهلم جرا ...
أما المسلم الذي يعتقد في وجود الله ، مع فكرته عن التشريع ، واعتقاده في العبادة ، نجد تصنيفه لمختلف العلوم بـهذه الطريقة لا يتلاءم معه .
إني أرى أن العلوم في الإسلام ينبغي أن تصنـف بالنظرة الجامعة والإطار الكلي رغم الدقة والتخصصات المختلفة ، ولو بفرض تغيير التسميات ، إذ لا يمكن في نظري فصل مسائل الصلاة والذكر والحج والصيام عن مسائل البيوع والأسرة والميراث والعقوبات والحكم والطب والفلك والتقنية ، وغيرها على سبيل المثال ، لأن الأولى تمثل العبادات والثانية تمثل المعاملات المالية أوالأسرية ، فالإسلام ينظر إلى كل الأعمال تجاه الله تعالى على أنـها قربات إليه مادامت تراعي حكمه وعدم الخروج عليه ويبتغي بـها المسلم رضاه ونعيمه ، ويمتنع عن مخالفتها تجنبا لغضبه وعذابه ، وهذا ما ينطبق عليه اسم العبادة بالشكل الكلي.
وإلا فأين مصداقية الآيات القرآنية التي تعمم مفهوم العبادة كقوله تعالى في سورة التوبة {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}.
وفي سورة البينة {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}.
وفي سورة الذاريات {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}.
وما مصداقية التعريف الاصطلاحي الذي يردد على مسامع الطلبة والعوام من أن {العبادة اسم جامع لكل ما يرضاه الله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة}؟ وهو لابن تيمية رحمه الله ، أوأن {العبادة كمال الحب لله مع كمال الذل له}؟ وهو لمحمد بن عبدالوهاب رحمه الله.
بناء على هذا كيف يسحب معنى العبادة من مفهوم البيوع والميراث والزواج والطلاق والحرب والسلم وغيرها من تشريعات الإسلام؟
كيف نلقن المسلم شمولية الإسلام لكل مكان وزمان وتصرف ثم نسحب من العبادة كثيرا من المفاهيم؟
كيف ينكر المسلمون وعلماؤهم والإسلاميون منهم خصوصا على العلمانيين الدعوة إلى فصل الدين عن الحياة ، وفصل الدين عن السياسة ، وتقزيم الإسلام في سرايا المساجد وأذكار الألسن فقط ؟
كيف تتناسق دعاوى العلماء والإسلاميين إلى اعتبار الإسلام نظام حياة شامل مع تقزيم العبادة بين جدران البيوت والمساجد ؟
كيف يفهم إنكارهم على الرهبان والأحبار اعتبار التدين بين جنبات الكنائس والمعابد مما يضفي عليه الصبغة الكهنوتية ، وهم يرتبون علومهم بالشكل نفسه المتطابق مع النظرة العلمانية اللائكية الرهبانية؟
من المتوائم المنطقي مع اعتقاده ونظرته وفكرته ؟ الإسلامي أم العلماني والللائكي ؟
ألا تتناسق هذه النظرة مع تزمت النصارى واليهود وغيرهم من الطوائف الدينية في الصوامع والبيع وغيرها ؟
ألا يتوافق هذا الطرح لعلماء المسلمين مع كهنوتية الدين ويتنافر مع نفيهم ذلك ؟
الإجابة في نظري واضحة في كون العلماني أكثر منطقية مع نظرته من الإسلامي .
الراهب والحبر وغيرهما أكثر ائتلافا مع ذاته من العالم المسلم في فهمه للتدين ، إذ هو عندهم يعني الشأن الشخصي فقط في علاقته مع المعبود المقتنع به ، أما العالم المسلم فيخلط في نظري بين نظرته الشاملة للنظام الإسلامي ومنهجه في تصنيف العلوم.
لقد لفت هذا الأمر وهذا الخلط نظري بشدة وأنا أمهد لدرس بين تلاميذي عنوانه {إسهامات المسلمين في الحضارة العالمية}.
يبتدىء الكتاب المقرر الدرس فيه بتقسيم العلوم إلى دينية وكونية ، فرأيت مجرد هذا التقسيم منطلقا خاطئا للدرس وللرسالة المبلغة لهم.
تذكرت وأنا ألقن تلاميذي شمولية العلوم الشرعية لكل ما ينفع ، إذ المعلوم من الضروريات أن العلوم الشرعية هي ما يحقق مصالح العباد بجلب المنافع ودرء المفاسد.
ولفت نظري المصادر الأصلية للإسلام ، فلم يصنف القرآن ولا السنة ولا الفهم السليم لهما من قبل معاشري تنـزيل القرآن وورود الحديث العلوم بـهذا الشكل.
فنتيجة ذلك في رأيي أن كل علم حقق ما سبق ذكره فهو شرعي ، حتى ما جاء من غيرنا ويخدم مصالح العباد ويدرأ عنهم المفاسد ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بـها.
فبالنسبة لي كل العلوم شرعية بالنتيجة المتوصل إليها في رأيي ، مع سحب الشرعية من تحت أقدام كل علم لم يحقق السعادة البشرية في الدنيا والآخرة.
عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ يَأْخُذُهَا إِذَا وَجَدَهَا رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.
ولا يتهيأن لأحد تحقير هذا الطريح المنطقي في رأيي ، إذ يمكن لقائل أن يدعي شكلية محل النـزاع ، وأنه لا أثر له عمليا ، لكنها مغالطة تؤثر على كثير من جوانب معاملات المسلم مع ربه ومع عباده ، ولقد رأينا كثيرا من المطبات وقع فيها المسلمون جراء استصغار فكرة أساسية أوخطيرة ، فإن آثار احتـقار هذه النظرة تكمن فيما يلي :
1 / نقص الالتزام بالتشريع خارج مجال العبادات {حسب التصنيف المنتـقد} كونه غير محاسب عليه في الآخرة.
2 / التشدد والتطرف ، إذ تؤدي هذه النظرة إلى ذم المشتـغلين بعلوم الدنيا ، وقد حدث لكثير من شباب المسلمين ترك تخصصات وصفوها بالعلوم الدنيوية لأن الاشتـغال حسبهم ينبغي أن ينصب على الدين فقط ، ومنهم من استشارني في اختيار الشعبة الجامعية بعد تحصيل شهادة البكالوريا فأشرت عليهم باختيار الشعب التي تتناسب مع ما هم عليه في الثانوي استمرارا في الواجب العيني المرتب عليهم فعملوا برأيي عدلوا عن الرغبة في اختيار شعبة العلوم الإسلامية بحكم تدينهم .
3 / المبالغة في إتقان الأعمال فيما مجاله العبادات حسبما سبق ، وتركه فيما مجاله الكونيات ، فقد رأينا كثيرا من خدام المساجد أتـقنوا فن تنظيفها وترتيب شؤونـها حتى أضحت بريقا يلمع ويريح المصلين إذا دخلوها ، ورغبهم فيها ، وغرس في نفوسهم الاطمئنان المعنوي ، وهذا شيء رائع ، إذ مدح النبي صلى الله عليه وسلم خدام المساجد أيما مديح {عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا»} رواه مسلم
{عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: " أَمَرَ رَسُول اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ"} رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة والحاكم .
4 / الرغبة الجامحة في عبادة الله بما صفته الدينيات والرغبة المحجمة عما صفته الدنيويات ، لأنه ليس عبادة في ذهن الجاهل بهذه الحقيقة.
5 / الابتعاد عن خدمة مصالح المسلمين أوقلتها ، باعتبارها ليست عبادات بـهذا المفهوم.
كل هذا لمجرد فكرة عن شيء قد لا يعتبر ذا بال عند من لم يعطه حقه من الاعتبار ، ومن أراد التحقيق أكثر فليرجع إلى كتاب الدكتور ابراهيم الفقهي رحمه الله {قوة التفكير} الذي يتحدث فيه عن أثر الفكرة ولو كانت بسيطة إيجابا وسلبا على حياة الفرد والمجتمع وأداء المؤسسات.
إني أدعو علماء المسلمين إلى إعادة النظر في تصنيف العلوم بإعادتـها إلى محضن الفهم الصحيح للنظام الإسلامي ، كي تفهم شموليته وحقيقة علومه .
أدعوهم إلى ذلك ولو بتسميات جديدة تربط كل العلوم بالماضي التراثي والحاضر الاجتهادي المتعلقين بإرادة التعبد بـها.
فلتكن تسمية علوم الشعائر بدل علوم العبادات ، والإبقاء على التسميات الأخرى بشرط حذف مسمى {الدنيويات} من القاموس لمقارنتها التعبديات.
وأدعو مقرري مناهج التعليم إلى إعادة صياغة البرامج وخصوصا دروسا كهذه بما يضمن النظرة الشاملة للنظام الإسلامي كي تتقرر في أذهان طلبتنا وتلاميذنا الصورة الفاعلة في واقع الحياة العملية عن حقيقة العلم.
كما أدعو علماء الغرب إلى تصحيح الفهم الخاص بالعلم والدين والتدين ، لأن ماجنته الكنيسة على المسيحيين لم يجنه الإسلام على البشرية ، بالتحكم في المجتمعات عن طريق تحريم العلم تديّنا في العصور الوسطى بـهدف السطوة الروحية على الناس ، فأضحى الدين في نظر هؤلاء مخدرا أوأفيونا ، فليس من الحكمة القياس مع الفارق بينهما ، لأن الإسلام مشجع على العلم وبه ساد أقوام لم يكونوا لينبغوا على الحضارة الرومانية والفارسية لولاه ، فليست حقيقة التدين هكذا كما صورته الكنيسة.
كما أدعوا مفكري العلمانية واللائكية إلى الأمر نفسه لأن ما فعله المتطرفون بدينهم لم تفعله حقيقته، ولم يكن الإسلام يوما هو صورة العوام والدهماء.
تطبيقا لفحوى هذه الدعوة يمكن لنا العيش تحت ظل حضارة رايتها وغطاؤها العلم المطلي بصبغة الشرعية والتعبد الكلي ، فيحصل الإتقان في أدائه مع الرغبة الجامحة في كل مجالاته فنسترجع سيادتنا المفقودة ، وعلومنا المسروقة .