المثالية المقنعة


ماعاد الصدق المبصر يفتح عينيه؛ فقد أثقلت جفنيه دروب معوجة يجدها حينا بيضاء تلمع في عينين صادقتين، وفي فم معسول؛ فيوشك أن يتجلى معها في مقام الورع ضياء ومهابة.

 وما إن  تدور عقارب الأيام حتى ترميه سهام العينين نفسها بشرر الكذب، واللسان ذاته يكاد ينتفخ من جمر التزييف؛ فتتحول هذه الدروب من البياض إلى السواد، ومن التجاوب الروحي الصافي كبلور شفاف بين خمائل زهور ممتدة إلى شيء أشبه ما يكون بقيد أو سد يتوارى خلفه نقيض الصدق  لا تشعر به الروح الصادقة .

 الكل مثالي ما إن يطابق قوله فعله مرة ومرات، وأصبح سجية نراها في يد معينه، وقلب محسن وراض وإلا، فالقول المثالي الذي لا يردف معه الفعل إلا تارة واحدة وإن طال بضع مرات، فهو بلا شك فعل خامره الرياء، وشمخ بأنفه الغرور، وطال بأوردة جيده؛ ففعله ما برح إلا وليد البرهة برهة تحقيق منفعة ذاتية له، يتنسم لها من فعله فرصة من هنا أو هناك، يحاول أن يقتنص صيده؛ ليغذي منافعه، وليرفع رايته المغلفة بالأنانية، وإن بدأت عند من أحسنوا الظن بأنها راية الحق.

إن المثالية الجلية عالم لا يطأه إلا من انعكست فعال قلبه الراسخة في جل أيامه من بدء معترك حياته، وحتى يأتيه اليقين، يتساوى معها القريب والبعيد والصغير والكبير، والذي أرهصه الفقر ومن شمخ به الغنى.

المثالية الحقة هي مثالية انتهجها من معين الدين، وانتقاها من موروث العادات الصائبة، وهي المثالية التي تدفأت بدثار المروءة.

هي في نظري الضمير الحي المعلق بسماوات ربانية، المرتجي رضا الله، الآمل بحياة برزخية؛ يرجو فيها أن يكون من المقربيين يشهد كتابه في عليين.

المثالية الحقة هي القدوة في علانية نظهرها، وباطن غاب عن الأعين لكنه يرقب الله، وما هي إلا جمال روحي يتدثر بنقاب طاهر يشف عن روائع طبيعة خضراء تعيش في النفس.

هي ترجمه لأفعال الخير؛ فما هذه المثالية إلا شعاع نور يسكب جماله على الظلمة المحيطة بالبشر؛ لتغدو ضياء في غسق شدائدهم، و أنسا شفيفا يذهب بوحشتهم تلك التي تقض وحدتهم؛ حتى تطير بهم هذه المثالية فرحا، وإن لم تكن كذلك؛ فإنها ما هي إلا أقنعة موصلة لمساع ذاتية ونزوات عابرة تسيرها الرغبات، ولا يحكمها العقل في  أوقات حاضرة و قادمة.

المثالية الحقة هي وطن  يُفدى بالروح والقدرة،لا يماري فيه الإنسان أحدا، هي روح الإخلاص التي تغذي بذور الخير في وطن ينمو بها؛ فتحمل على زنادها أمانة المسؤولية عنه، وتضىء سواعدها بتلاحم حميم مع الحاملين معها حب هذا  الوطن على محامل عزيمتهم،ومخابىء قلوبهم الصادقة؛ لترى نفسها معهم مرابطة على حدود حماه، وحقوق شعبه، وواسع حلمه.


 هذه المثالية ما هي إلاسنبله معطاءة بأفعالها الملحوظة؛ لتكون القدوة التي يؤتى منها الكثير ويسير على نهجها الجميع.