كتب أرسطو كتابه الأخلاق النيقوماخية (Nichomachean Ethics) قبل الهجرة النبوية الشريفة بتسعمائة وستين (٩٦٠) سنة تقريبا، والكتاب واسع الشهرة، وهو من أسس علم الأخلاق، وأثره في فلسفة الحضارة الغربية ممتد جدا، وله شروحات كثيرة بلغات متعددة (وقناعتي تزداد يوما بعد يوم أن كتابات أرسطو فيها بقايا من آثار السماء؛ أثارة من الوحي الإلهي؛ فلا يَبعد أنه قرأ التوراة، والله أعلم).
وقد كتب أرسطو كتاب الأخلاق -بطبيعة الحال- باللغة الإغريقية، ثم تُرجم الكتاب إلى العربية؛ إذ قام بترجمته إسحاق بن حنين (توفي سنة: ٢٨٨ للهجرة) في بغداد، ويقال إنه تُرجم من الإغريقية إلى السريانية، ثم نُقل منها إلى العربية. الشاهد أن حركة الترجمة أتاحت لعلماء المسلمين الاطلاع على الفلسفات والثقافات الأخرى.
ومن أبرز علماء المسلمين الذين استفادوا من حركة الترجمة هذه= الإمامُ الفقيه أبو الوليد ابن رشد (توفي في القرن السادس الهجري)؛ فَقَرَأَ كتاب الأخلاق لأرسطو المترجم إلى اللغة العربية (إذ يرى بعض الباحثين أن ابن رشد قرأ الترجمة العربية ولم يقرأ الأصل)، ثم قام بكتابة شرح عليه باللغة العربية. ولأهمية هذا الشرح (أو: التعليق)؛ تمت ترجمته [أي: ترجمة شرح ابن رشد] إلى اللاتينية في القرن السابع الهجري، وكذلك ترجمَه المترجمُ العِبري صموئيل بن جوداه إلى اللغة العبرية سنة ٦٩٩ للهجرة النبوية. [ولابد من التنبيه هنا على أن كثيرا من هذه المعلومات التاريخية الموجودة في المصادر= من الصعب التثبت منها وتأكيدها].
السؤال الآن: هل شرح ابن رشد على كتاب الأخلاق موجود الآن بين أيدينا؟ الشرح العربي مفقود للأسف، ولا توجد منه إلا بعضُ الأجزاء في القرويين (وربما في غيرها)، ولكن العجيب أن النسخة العِبْرية موجودة كاملة ومطبوعة ومتداولة الآن، وهذا يدلك على قيمة الترجمة وأهميتها في حفظ العلم؛ فتراثنا نحن المسلمين [أي: شرح ابن رشد] لم يُحفظ إلا من خلال الترجمة إلى لغات أخرى (وهو الآن في حاجة لمن يعيده إلى لغته الأم: العربية!).
ونحن نجد أن القرآن يرشدنا إلى فكرة "التعارف" في قوله سبحانه: (يا أيها الناس: إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل؛ لتعارفوا)، وهي تشمل بذل المعروف، وكذلك -والله أعلم- بذل المعرفة، ومن الممكن أن يقال إن الآية دلت على أن من علل وأسباب إيجادنا في الكون= التعارف؛ وذلك يتأكد إذا اعتبرنا أن التعليل في: (لتعارفوا) يعود على الخلق والجعل كليهما (وليس على: (وجعلناكم شعوبا وقبائل) فقط)؛ فيتحصل من ذلك أن التعارف علة غائية للخلق بالإضافة إلى الغاية الكبرى: العبادة، كما في سورة الذاريات (والغايات قد تتعدد)، وعليه؛ قد يصح أن تكون هذه الآيةُ خبرا بمعنى الإنشاء؛ أي: تكون إرشادا لنا لأن يعرف بعضُنا بعضا [ولم أجد هذا في كتب التفسير -ولا أدعي الاستقصاء- ولكنني أراه محتملا. والله أعلم بمعاني كتابه].
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقول إن الترجمة -يا أصدقاء- عملٌ حضاري عظيم، بل هي من وسائل تحقيق وتفعيل قول الله سبحانه: (لتعارفوا)!
طارق.
كامبردج؛ ضحى الأحد؛ ١٢ رجب ١٤٣٨ للهجرة.