من وحي سورة الكهف 14 الأخذ بالأسباب ج1.

خلف سرحان القرشي.

........

تقدم هذه السورة لقارئها والمتأمل فيها درسا إنسانيا عظيما، وهو أن ثمة قانون كوني إلهي وضعه الخالق سبحانه وتعالى، وبموجبه تسير وتسري الحياة، في كل زمان ومكان، وهو قانون (الأخذ بالأسباب).

وهو منهاج فطري، نجد القرآن الكريم يشير إليه تصريحا وتلميحا في كثير من آياته، ومن ضمنها آيات هذه السورة التي هي واسطة العقد للكتاب العظيم.

إن الأخذ بالأسباب سنة من سنن الله في كونه وخلقه، أخذت ومازالت تأخذ مجراها، منذ بدء الخليقة، وحتى تقوم الساعة.

وسنن الله لن تجد لها تحويلا ولاتبديلا.

وقانون (الأخذ بالأسباب) هو الفيصل بين الحضارة والتخلف. كما أنه عماد للحياة الفاعلة الطيبة.

وفي هذه الحلقة، والتي تليها بمشيئة الله تعالى، سوف نتوقف عند بعض مظاهر وإشارات ذلك القانون، وتلكم السنة، من خلال قصص السورة الأربع.

والبداية مع قصة فتية الكهف الذين - بالرغم من ضعفهم وعجزهم مقابل قوة وجبروت ونفوذ أعدائهم؛ حاكم مدينتهم وملأوه - نجدهم (أعني الفتية) يأخذون بالأسباب المتاحة لهم، بدءا بأهمها وأولاها، وهو الالتجاء إلى الله عز وجل بالدعاء، وسؤاله الرحمة والرشد:

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا).

وهذا السبب هو فاتحة الأسباب، كما أنه في بعض الحالات هو كل الأسباب.

ياترى هل كان لدى سيدنا يونس عليه السلام - عندما التهمه الحوت، وأصبح في أعماق جوفه - من أسباب يمكنه أن يأخذ بها في تلك الساعات العصيبة، غير الدعاء؛ تسبيحا واستغفارا وإقرارا بالذنب؟ قال تعالى:

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ. فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ. وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ).

وقال تعالى:

(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ).

وعلى طريقة تتشابه وتتقاطع مع مبدأ (اعقلها وتوكل)، وبعد أن أخذ الفتية بالدعاء أول الأسباب وأهمها، باشروا الأخذ بأسباب أخرى ومنها: الهروب من قومهم، والإيواء إلى أحد الكهوف، والاختفاء داخله، ولم يَفُتْهم أن يصطحبوا معهم كلبا، لعله لغرض حراستهم، ولم يغفلوا أن يحملوا بعض الوَرِقْ/المال، ليتسنى لهم به قضاء مايلزمهم عند الضرورة وحيث تتاح لهم الفرصة، ثم نجدهم بعد أن أيقظهم الله من نومتهم، يبعثون أحدهم ليشتري لهم زادا، ويؤكدون عليه بالحذر والتيقظ والتلطف لكي لايعرفه أحد، ويكشف أمرهم كما كانوا يعتقدون.

جملة من الأسباب لم يهمل القرآن الكريم الإشارة إليها، رغم أنه نهى عن المراء والجدال في عدد أولئك الفتيان، وتاريخهم، ومكانهم وزمانهم، واسمائهم ونحو ذلك.

وفي هذا دلالة تَشِي بأن الأخذ بالأسباب مهما كانت بسيطة، أمر مقدم على كثير مما عداه، مما يظنه الناس خطأً ذا أهمية أو شأن.

إن فن ومهارة(ترتيب الأولويات) التي يوليها اليوم خبراء التطوير الذاتي والتمنية البشرية أهمية قصوى سبق للقرآن الكريم الإشارة إليها في هذه السورة قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام.

في القصة الثانية التي تتضمن الحوار بين صاحبيِّ الجنتين؛ المؤمن والكافر نجد نموذجا مختلفا، فصاحب الجنة الكافر يبدو أنه أخذ بكثير من الأسباب، ومنها الإنفاق السخي على جنته/ مزرعته، والاهتمام بها، وما إلى ذلك، ولكنه رَكَنَ إلى تلك الأسباب، واعتمد عليها، واغتر بنتائجها، وعَمِيَ عن الحق والحقيقة، ووَهِمَ وتوهم أن الخطوات التي أخذ بها، هي كل شيء، ونسي نسبة الأسباب إلى مسببها؛ وحده عز وجل، وكَفَرَ به، ولم يُجْدِ معه تذكير صاحبه المؤمن له، وكانت النهاية المأساوية التي لانجد أجمل ولا أبلغ في تصويرها ووصفها إلا بما وصفها به القرآن الكريم:

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا. وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا).

وهذه القصة تجعلنا نستحضر ونتذكر ونُجِلُّ مقولة حكيمة، قالها بعض أهل العلم: (الأخذ بالأسباب عبادة، والاعتماد عليها فقط شرك).

في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، وقدر لنا البقاء واللقاء، سنتوقف عند مظاهر الأخذ بالأسباب في قصتي موسى عليه السلام مع الرجل الصالح/الخضر، وقصة ذي القرنين.

والله نسأل أن يعلمنا جميعا ماينفعنا دنيا وآخرة، وينفعنا، وينفع الآخرين بما عَلَمَنَا، وعَلَّمَهٌمْ.

سُـــبــحــانَــكَ الـــلَـــهُـــمَّ خَـــــيــــرَ مُـــعَـــلِّـــمٍ

عَـــلَّــمــتَ بِــالــقَــلَـمِ الــــقُـــرونَ الأٌولـــــــَـــــــى

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

........