كل ما تجني النفوس عليه هو من خفقة ماء وطين"
أيها القلب الشفيف، أنت أشبه ببياض تشرب عذوبة الرحمة حتى آخر قطرة من حوضها النقي، أرى رحمتك تنبش الدموع في عينيك الرحيمة، ليستجديها مجراها، و ما البياض الذي زرع حولها إلا دقاتك الطيبة التي أصغت إلى ترانيم الطهر فيك، وكأن حالك أيها القلب حين تستحوذ عليك هذه الرحمة بأنك تستحم في الغيم، وتشرب ماءه المغيث؛ فالدمعة توشك أن تخرج من عينيك تتقاسمها رموشك وتتمدد على بساطها، وتفرش لها وجنتيك بساط الزيارة على تتالي التراحيب.
.
يالرقتك أيها القلب!
عندما تأتيك التوسلات؛ بأن تفعل شيئا أمام من حامت حوله الهزائم، وأطبق عليه الضعف؛ وغابت عنه الحيلة؛ أراك تتناهى في الرحمة إلى الأمد البعيد الدقيق ... لطالما رأيت النوم يختفي عن مقلتيك حين يغطي الظلام الكون، أرى بأن رحمتك وصلت إلى أن البعض يتخيلك بأنك في عالم الطهر وحدك، وبأنك في عالم بعيد لا يتناسب مع عالم اليوم الذي لم يبق فيه من آثار الرحمة إلا الشيء اليسير.
أيها القلب الرحيم!
رحمتك أتتنني من تحت أفياء ظلالك وأنا مابين شوكتين بالكاد أخرج رأسي لإرسال أصوات الاستغاثة، فإذا بك تهرول مسرعا، تمد كفوف العون، وضمة الصدر، والبحث عن متنفس للضيق.
تنعكس صورة ذلك الذي نزل عليه وقع الألم في حسك، فكأنما أنت من تعاني لا هو، وأنتَ من سالتْ جروحه لا هو من طعنات جبارة ... فإذا بك من صفتك الضدية تجابه تلك الطعنات رأسا برأس كأنما لقاؤك بها لقاء قائد محنك يكر ويفر؛ ليبحث عن منفذ لرحمته ليباغت القسوة في لحظة ضعف منها.
إن رحمتك أيها القلب، أتتك من عمق إيمانك بالله ( تعالى)، وإخلاصك للدين؛ فإنا إذا ما ابتدأنا بقراءة دستور المسلمين الأول - القرآن الكريم - نقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم " وهذه الصفات (الرحمن الرحيم) من أسماء الله تعالى، وكان من الممكن أن يأتي سبحانه باسم آخر مع الرحمن مثل العظيم اللطيف السميع لكنه أكد كلمة الرحمن بكلمة الرحيم، مما يدل على عظم مدلول هذه الصفة؛ فبوجودها تتماسك الأسر، ويصلح حال المجتمع، ولا يخاف الضعيف على نفسه، وتغيب وربما تنصهر المشكلات الاجتماعية، ويحل مقامها القلب السليم، والعقل صحيح التفكير؛ فترتقي بهذا المجتمعات اجتماعيا واقتصاديا، وسيسود الأمن ، وسينشر السلام أجنحته على العالم.
إذا ما لاحظنا فإن هذه الصفة(الرحمة) تتكرر على لساننا؛ فمن أساس قرآتنا اليومية قراءة سورة الفاتحة (أم القرآن) في فرائض وسنن الصلاة ؛ وفيها ذكر صفات مأخوذة من الرحمة وهي ( الرحمن الرحيم ) و كذلك في التسمية(بسم الله الرحمن الرحيم)، مما يدل على عظم هذه الصفة، وعمق مداواتها للنفوس، وإصلاح لحالها.
وكذلك قد ذكرت في آيات كثيرة من القرآن الكريم منها قال الله تعالى: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" آل عمران /159
إن الرحمة كدين يُرَدُّ إليك، وقد تعهد رسولنا الكريم بهذا فعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله( صلى الله عليه وسلم )" الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء..." رواه الترمذي
إن الرحمن الرحيم من أسماء الله تعالى؛ لذا فمن الأحرى بالمسلم أن يتحلى بها، وأن يرسمها في قلبه نبضا يتدفق بالخير نحو الغير، ويدا تلتمس رفع البلوى عن الضعيف والمسكين، وصاحب الحاجة.
إن الإنسان يحمل المشاعر ذاتها التي تحملها، والأمنيات التي تسعى لها، والعون الذي ترجوه منه يرجوه هو منك، والمساندة التي تطلبها منه هو أيضا يطلبها منك ؛ فهو مثلك ؛ فاجعل نفسك في موضعه، واشعر بما يشعر هو به...فنحن خلقنا في هذا الكون لهدف وغاية ألا وهي عبادة الله( تعالى) وتعمير الأرض، ولا يكون ذلك إلا بالامتثال لأمر الله بأن نكون راحمين ومرحومين معينين ومعانين، وما هذا الإنسان إلا من خفقة ماء وطين؛ فهو كتلة من المشاعر فبتعاملك الجميل معه سينبت الخير من طبيعة مائه، وتزهر مشاعره في طبيعة طينته الفطرية.