الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:Image title
لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم لتصحيح اعتـقادات الناس في الله والكون والإنسان ، فدعا إلى الإسلام بكل معانيه ومبادئه وتشريعاته ، ونقد عن طريق الوحي كثيرا من التصرفات والطبائع ، فما كان موجودا قبله موافقا أقره ، وما كان قبله مخالفا نسخه ، أوبعبارة أخرى نسخ الضار وأقر النافع.
كما غسل عقول البشر من كل الاعتـقادات الخرافية الشائعة ، بسبب العواطف المتطرفة والمشاعر الساذجة ، والتصورات المغشوشة عن الحق والباطل ، التي كثيرا ما تقحم معتـنـقيها في الحكم على العبادات والحوادث والأشخاص.
وفكّ نزاعات أسبابـها أتفه من تراب القوم ، وأرذل من روث إبلهم ، أولاها موقدوها المنزلة المبوأة لإبادة البشرية.
لقد حدث أن قتل أسامة بن زيد عدوا بعد سقوط سيفه وشهادته أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ظنا منه أنه قالها نفاقا وخوفا من القتل ، فرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى المفهوم الصحيح للحكم على الناس في مختلف المناسبات.
لقد لقنه ترك أمر الاعتقاد والحكم بالكفر والإيمان لله تعالى ، فهو المتكفل بـه.
إن بواطن الخلق مسلمة إلى بارئهم عزوجل ، والمباح للملاحِظِ هو الظاهر من أمر الفرد فقط .
فالقضية متعلقة بشقين :
1 / الحاكم على الناس: وهو العالم بأصول العلوم المختلفة ومنه حاكم البلد أوالقاضي المعين لا كل الناس كما نجده عند مختلف عوام الطوائف.
2 / الظاهر: وهو ما يراه الحاكم على الفرد من قول أوعمل ، فهو مكلف بالحكم بما يجده من جليّ الفاعلين لا بما لا يعلمه أويتحسسه من بواطنهم.
ولذلك فإن الخالق تعالى لم يعاتب عباده على ما يَكِنّ في سرائرهم ، إن لم يعلنوه ، بعدما ثقل عيهم التكليف بقوله تعالى { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} سورة البقرة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» قَالَ قَتَادَةُ: «إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ» رواه البخاري في صحيحه.
قال ابن عبد البر في التمهيد : أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن أمر السرائر إلى الله.
قال الإمام الشافعي في كلام له وقد أمر الله نبيه أن يحكم بالظاهر والله متولي السرائر.
قال عمر رضي الله عنه إنما كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم أخرجه البخاري.
وقال الشوكاني:[ وكذلك حديث ( إنما نحكم بالظاهر) وهو وإن لم يثبت من وجه معتبر فله شواهد متفق على صحتها ومن أعظم اعتبارات الظاهر ما كان منه صلى الله عليه وسلم مع المنافقين من التعاطي والمعاملة بما يقتضيه ظاهر الحال ]. نيل الأوطار 1/369 .
وقوله صلى الله عليه وسلم {إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار} متـفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد لما قتل في المعركة رجلا قال لا إله إلا الله وزعم أنه قالها خوفا من السلاح:« أفلا شققت عن قلبه» رواه مسلم وفي رواية له:«وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاء يوم القيامة».
إن ما ينبغي فقهه :
1 / أن لا تدخل فيما يبطنه الناس ولو بأخطر الأوهام.
2 / أن الحكم على بوادر التصرفات من قبل العالم يكون بالتصويب والتخطئة فقط لا بالحق والباطل ، أوالإيمان والكفر ، وفي أقسى الأحوال بالحلال والحرام.
إن ما يلزم على المتطفلين على الفكر والشرع فهمه أن التعصب للفكرة ولو فيما هو محمود لا يكون منزلقا إلى التصنيف بما سبق ، لأنـه معهود إلى عالم الغيب والسرائر  فقط.
3 / أن التصدي له مقيد بعلم الشرائع والضوابط والقواعد ، فليتجنب القاصر هذه الصنعة.
4 / أن ذاك يهمز بـه في الأصول لا في الفروع ، والجنة والنار في العقائد لا في التشريعات الجزئية وبالكلية لا بالتعيين.
كذلك ما ينبغي علمه أن :
1 / العاطفة الجياشة للدين أوالفكرة مهما كانت ليست مبرر صبغ الحبيب مع رمي الخصم.
2 / الالتزام بمظاهر اللباس والفعل والانتماء التنظيمي والحزبي ليس مقياس التـفضيل ، ولا ميزان التقديـم ، لأن الباطن خفي لا يعلم استـقامته ولا زلته إلا الله تعالى ، فلا يجوز المزايدة على الغير بذلك.
وقد قيل قديما لمن يزايد على مبتلى في الظاهر {قد يعافيه الله ويبتليك} في حديث قيل إنه ضعيف.
3 / العبادات لا يضاف إليها القبول ورده ، لأنه لله تعالى فقط ، إنما ينبه عليها بالصحة وعدمها فقط.
4 / مقادير الحسنات والأجور والثواب مع السيئات والذنوب والآثام أسندها الله لنفسه لا لعباده.
لقد وقع الكثير في الغلو فيما يروق لهم من شتى المذاهب ، قال تعالى { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} سورة الأنعام ، وبسبب الحرص المبالغ فيه حتى مع المقرب الذي يحرص الواحد منهم على استـقامته وانصرافه عن العنت ، فينعت له المخالفة بما سبق زورا وبـهتانا .
إن الحكم بالجنة والنار موكول إلى نـهاية حساب الله للعبد ، والحكم بالكفر والإيمان مفوض إلى أركان يعلم الله وحده استيفاء العبد لها من عدمه.
توسعت هوة الاختلافات وعسرت فرص التـقارب بسبب عاطفة غير واعية أدت إلى إهداء الموافق الحق ورمي المخالف بالباطل ولو فيما لا يحمله لأن ابن آدم لا يطيق في الميزان إلا معايير الحلال والحرام أوالصواب والخطأ.
تخاطب كثير من السياسيين بمصطلح الأمانة والخيانة ، والصدق والنفاق ، في مجال تجاذبات عادية وقناعات بسيطة لا ترقى إلى التنقيب عن أغوار الأنفس.
حدثت جراحات لشجارات تافهة بسبب ما سبق ، صعب بعد ذلك اندمالها ، بحكم قناعة كل طرف بصلابة فكرية يصعب انتزاعها.
إغماءات ذهنية ، وشطحات فكرية ، وهراءات وهمية ، بسبب الاستئثار بالحق والتبرع بالباطل.
تراشقات حزبية في انتخابات لاستحقاقات المجالس والمقاعد النيابية هوت إلى دركات الرمي بما هو منوط بالله تعالى.         
حتى المتشدقون بالحرية ونبذ التطرف والتعصب من العلمانيين يصدر منهم نعت غيرهم بالرجعية والتخلف عوض اقتراح بديل الخطأ أوتحفيز الصواب ، وهم أول من يصدع الرؤوس بصيحات حين يغلبون بالحجة على أمرهم.         
إن من الأسى التملق مع العدو انبهارا بمدنيته ، وإبداء كامل مظاهر اللين والمرونة دون هجو بحجة حسن التمثيل وهو أمر مقبول بتحفظ ، مع التنكر للأخ بالسباب والشتيمة.
إن ذهنية النأي والذمّ لن تزيد الفرق والفصائل إلا تباعدا وتباينا يقطع أحبال التواصل بما يبني قصورا من الأوهام تجاه الآخر لهذا البون المصنوع من التكشير والبغض.
إن النظرة الأحادية توقعنا حتما في خندق التخلف العلمي المودي بحياة أمة بكاملها.
إن الإشارة إلى الآخر بالنـقص ، لمز للأجنبي لفتح جبهة التآمر الخارجي المؤجج نيرانا لا تنطفىء إلا برماد يذر على أمة يكتب لها الانكسار بدل الانتصار. 
إن ذلك يـُحْكِمُ معول هدم حضارة هي أصلا ليست على شدة ولا استـقامة.
إن الأخلاق تفرض علينا التوقف عند الظاهر واحترامه والتعاون على ارتـقائـه ، مع تجنب التطاول على عالم السر والخفاء ، كي نحقق التعفف عما لا يُقْدَرُ عليه.
إن مسار هذه الأخلاق يبعث على هدوء الخلاف وسلاسة النـقاش حول القضايا المصيرية وحتى الفرعية.
إن مآلها البوح بالرأي مع ترك هامش التراجع حالة الشعور بالخطأ ، فإن ملء الهامش ضغط على ورقات الأيام والأحوال عند التماس التصحيح.     
إن المفكر ينبغي في رأيي أن يرتع بين جنبات التنافس لا في حدود التخاصم ، أن يتجاذب بالأفكار لا بالعداوات الواصفة للغير بما برئت ذمته منه ولا يحتمله ، مع التواضع لحوار علمي مرن يروم  التوافق حول مفاهيم ومصطلحات وهيئات ، لتهدئة النفوس والأرواح والأذواق وتمكين العلوم ، لبناء حضارة التـفتح نحو كل مخالف بغية الإفادة لا بـهدف النيل ، توصلا إلى تشييد صرح السيادة المفقودة.