ذات يوم؛ وبينما أنا أقلب صفحات كتاب لكاتب معاصر، برز مؤخرًا وفرض نفسه بين الكتاب، حيث السلاسة في العبارة، والجمال في الأسلوب، والسمو بالفكرة.

شرعت في قراءته وكلي حماسة، فقد حاز هذا الكتاب شهرة لا بأس بها.

لكن ثمة أمر منعني من إكماله!

تركته جانبًا ولم أُنهِ بعد الصفحات الخمس الأولى.

وفتحت صفحتي في تويتر لأكتب هذه التغريدات الثلاث:

- النماذج الناجحة دائما ما تقلد، وكأن النجاح مرهون بها، أبدع وكن أنت النموذج الناجح.

- ‏النموذج المقلد يفقد كثيرًا من البريق، خسارة على المميز أن يدفن نفسه بالتقليد، اعمل بطبيعتك كما توحي لك نفسك، فلكل منا جوهر متميز عن غيره مكمل له.

- ‏بين يدي عمل يبدو أنه جميل، لكن شدة المحاكاة والتقليد فيه لنموذج آخر حتى في أدق التفاصيل استفزتني، وحرمتني متعة المتابعة.

نعم؛ لقد كان التقليد أو ما عبرت عنه هنا "بالاستنساخ" هو ما منعني من الاستمتاع بقراءة الكتاب وإكماله.

ما إن يخرج نموذج ناجح حتى تخرج آلاف النماذج المقلدة له بل المحاكية بل المستنسخة!

والتقليد ليس مرفوضًا على كل حال، بل محمود أن تكرر المشاريع الناجحة، وتقام في أماكن متعددة، ويستفيد منها الجميع، ويُشكر من بدأ الفكرة، فقد سن سنةً حسنةً، ومن قلدها نشر الخير وأعان عليه.

لكن المصيبة هو انتشار الاستنساخ الذي لا نفرق فيه بين النموذج الأصل والنموذج المقلد، حتى في أدق التفاصيل، وبالتالي غياب الإبداع والتطوير!

وهذه مشكلة تعظم إن كان انتشارها في الأعمال الخيرية والدعوية التي هي بحاجة إلى الإبداع، وملامسة حاجات المجتمع، ومواكبة تطوره.

استفد من فكرة غيرك، وأعد ما بدأ لك، لكن عود نفسك ألا تستنسخ شيئًا أبدًا، عود نفسك على الإبداع.

أضف لمستك الخاصة، رمم الخطأ الذي لم يُنتبه له، طور ما يحتاج للتطوير.

وهب الله الإنسان قدرات عالية، ومواهب عظيمة.

يقول -امران شاينفلد- في كتابه أنت والوراثة: "إن كل كروموسوم يحمل جينات تعد بالمئات، وإنَّ واحدًا فحسب من هذه الجينات يستطيع في بعض الأحيان أن يغير حياة المرء تغييرًا شاملًا".

لقد راعى خير البشر نبينا -صلى الله عليه وسلم- هذا الجانب عند أصحابه، واحترم اختلافهم وطبائعهم، ولم يطلبهم أن يكونوا نسخًا من بعضهم.

"فعندما استشار أصحابه في أسرى بدر انطلق كل على سجيته يبدي مايراه حسنا.

فأبو بكر الحليم يؤثر الصفح، وعمر الصارم يرى العقوبة.

فعقّب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشورة صاحبيه بأن شبَّه الأول بإبراهيم -عليه السلام- حين قال لقومه: "فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم"، وشبَّه عمر -رضي الله عنه- بنوح -عليه السلام- في قوله تعالى على لسان نبيه: "ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا".(١)

وهكذا في شتى تعاملاته -صلى الله عليه وسلم- مع صحبه.

فيا أصحاب المشاريع والأفكار النهضوية أبدعوا، قد حباكم الله عقولا كبيرة، وهيأ لكم السبل، وسخر لكم الأرض.

ويا أصحاب المشاريع المقَلدة، خذوا المقلدين بلطفكم، ألستم ابتغيتموها لله فاحتسبوها له، وإياكم وحظوظ النفس والانتصار لها، بل افرحوا لنشر الخير، واعملوا على المزيد من الأفكار لتنتشر ويعمَّ نفعها.

ويا أصحاب الأفكار والعقول البارعة، انشروها للمراكز والمؤسسات الخيرية المنفذة، الأمة بحاجة للأفكار للإبداع للمضي قدما.

إن كان أعداء الإسلام يعملون بكل ما أُتوا، يفكرون يخططون يبدعون يعملون عقولهم لهدم الدين، فنحن أولى بذلك منهم.


(١) محمد الغزالي، جدد حياتك، أنت نسيج وحدك.