من وحي سورة الكهف

أفعال الخضر والمسؤولية الإنسانية 13.

بقلم : خلف سرحان القرشي.

..........

تنفرد سورة الكهف العظيم بعدة أمور، ومنها أنها السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي تطرقت لقصة سيدنا موسى عليه السلام مع الرجل الصالح/الخضر، ويقول بعض المطلعين على التوراة: أن هذه القصة ليست مذكورة فيها، ولكنها وردت في (التلمود)، وهو مجموعة مرويات؛ ألفت وجمعت بعد نزول التوراة بمئات السنين.

ويعتقد البعض أن أحبار اليهود أخفوا هذه القصة بقصد، لأنهم لايريدون أن يظهر نبيهم موسى عليه السلام في موضع طالب علم؛ يتعلم من غيره، لأنهم يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أفضل البشر في كل شئ، وكذلك نبيهم.

ولكنهم أي اليهود اضطروا لاحقا في إيراد هذه القصة ضمن مرويات التلمود، بعد أن ذاعت وانتشرت، ولم يعد من الممكن اخفاؤها، لاسيما بعد أن ذكرت في القرآن الكريم، كما أنهم أوردوها في(التلمود) ببعض الاختلاف عن سرد القرآن الكريم لها.

وحقيقة لست متأكدا من هذه الجوانب، ولعل من بين القراء الكرام من يفدنا مشكورا في ذلك.

وإن صح ماذكر أعلاه، فنحن أمام معجزة وتحدي من نوع آخر يقدمه القرآن الكريم لليهود؛ فقد ورد في سبب نزول هذه السورة الكريمة أن اليهود اقترحو على بعض المشركين سؤال النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن عدة أمور، فإن أجاب عنها فهو نبي، وإن لم يجب فهو رجل(متقول)، وتلك الأمور هي: فتية الكهف، وذو القرنين، والروح (على اختلاف في الروايات).

ونزل الوحي بسورة الكهف على قلب الرسول صلى الله، وفيه إجابات عما سألوا عنه، باستثناء الإجابة عن سؤال الروح، حيث جاءت في سورة الإسراء.

وبالإضافة لما سئل عنه الرسول، أتت سورة الكهف بقصة موسى مع الخضر، وهي ليست من ضمن ماسألوا عنه.

والتحدي يكمن في أن هذا النبي الأمي لايعرف فقط - من خلال الوحي الرباني-، ماسألتموه عنه بغرض التعجيز والتحدي، فحسب، بل يعرف عن نبيكم قصة مهمة قد لاتعرفونها أنتم معشر يهود. وهنا يمكن القول بأن السحر قد انقلب على الساحر.

بعد هذا، نتوقف مليا مع السمة البارزة، والصفة المشتركة التي نجدها في أفعال الخضر الثلاثة المذكورة في السورة.

وهي من وجهة نظري فعل الخير أو المسؤولية الاجتماعية وإن شئت الدقة فهي المسؤولية الإنسانية، وذلك على النحو التالي:

1. خرق السفينة كان فيه خدمة لأصحابها المساكين الذين يعملون في البحر.

2. قتل الغلام كان فيه خدمة لأبويه الصالحين.

3 . إقامة الجدار كان فيه خدمة للغلامين اليتيمين.

ويمكننا أن نستشف من هذه السورة معنى عميقا ومهما، وهو أن المسؤولية الاجتماعية تتضاعف، وتكتسب مزيدا من الأهمية والوجوبية عند ارتفاع مستوى العلم والمعرفة لدى الإنسان.

وقد يقول قائل ولكن الخضر قام بهذه الأفعال بأمر من الله عز وجل: (ومافعلته عن أمري)!

وهذا صحيح، ولكن لماذا لاتقم أنت أيها الإنسان بمثلها؟ وقد أمرت( قرآنيا وسنيا) بما يشبهها في المقصد والغاية، وإن اختلف عنها في الطريقة والكيفية؟

إن علينا ونحن نقرأ هذه السورة كل جمعة أن نسأل أنفسنا: ماهو الدرس الذي نستلهمه نحن وغيرنا من البشر منذ نزول هذه الآيات، وحتى تقوم الساعة، من عرض القرآن الكريم لهذه القصة الاستثنائية؟

الله عز وحل يصف القصص التي يرويها ويسردها القرآن الكريم بأنها(أحسن القصص)، وطالما أنها أحسن القصص، فإنها مكتنزة بالمعاني العظيمة والدروس المفيدة.

(الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).

الخضر عُلِّمَ وعَلِم،َ وأمِرَ وعَمِل.

وكل منا ينبغي أن يكون خضرا، يتعلم، ويِعْلَمْ، ويعمل لأنه مأمور في سياقات مختلفة، ومواضع متعددة بالعمل الخيري لمن هم في حاجة إليه ممن يعرف، وممن لايعرف؛ من بني الإنسان، وحتى من بني ذوات الأكباد الرطبة!

أليس في كل ذات كبد رطبة أجر؟

ألم تدخل بغي من بني إسرائيل الجنة، لأنها سقت بيديها كلبا شارف على الهلاك من شدة العطش؟

ألم تدخل إمرأة النار في هرة؛ حبستها لاهي أطعمتها، ولاهي تركتها تأكل من خشاش الأرض؟

ومن الجوانب التي تستحق التوقف في أفعال الخضر هي أنه لم يطلب مقابلا نظير صنيعه، رغم أن ذلك من حقه عرفا، لكن النبل، والمرؤة، ونشدان الثواب التام من قبل رب العالمين يكون في عدم اتخاذ الأجر على الأعمال الصالحة.

ماأحوج المسلمين اليوم لاسيما القائمين على المؤسسات الخيرية، والعاملين فيها على استحضار قوله تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجر)؟

ومن خلال أفعال الخضر يمكن أن نستشف أيضا أن ثمة أولويات للمستفيدين من العمل الخيري، فالمساكين والفقراء، وصغار السن، وذوي الحاجة لهم الأولوية وفي كل خير.

في أفعال الخضر عليه السلام، نجد أيضا قتل للأنا - (الإيجو)-، كما يسميه علماء النفس، وهو شيطان مقيم داخل كل نفس، مالم يروض، فالخضر لم يكشف لأحد ممن حوله عن هويته.

( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا).

لا ننكر أن ثمة حالات قليلة ينبغي فيها الإفصاح عن الأعمال/ المشاريع الخيرية، كأن يكون ذلك من باب لفت أنظار الاخرين، واستغلال تأثير القدوة والاقتداء، ودفع الشبهات واتقائها، وأيضا عندما يلزم القانون أو النظام بذلك، ولكن هذه الحالات هي الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولاينفيها.

قال تعالى(وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ۗ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ. إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

أخيرا نجد أن القرآن الكريم يستخدم مفردة (فانطلقا) قبل بدء أي فعل من أفعال الخضر الثلاثة، وهذه المفردة( فانطلقا) تعني ضمن ماتعنيه الذهاب عاجلا وسريعا باتجاه الهدف، والتحرر من كل مايمكن أن يعيق ويمنع.

وهنا تحضر الإيجابية والجدية التي ينبغي أن يتحلى بها كل مبادر لفعل خيري.

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

بقي أن نؤكد أن التأكد من ظروف مستحق العمل الخيري أمر سابق لعملية الانطلاق هذه؛ من خلال العلم القطعي، والمعرفة اليقينية.

ولو تمت عملية الانطلاق باندفاع واستعجال دونما علم أو تثبت، فإنها قد تعطي نتائج عكسية، وقد تتسبب في تقديم العون لمن لايستحقه، أو لمن يسئ استخدامه.

ألم تقدم ملايين الدولارات تبرعات لمشاريع ظاهرها الخير، وتبين فيما بعد أنها استغلت ضد الاسلام والمسلمين؟

المسؤولية الاجتماعية أو الإنسانية في أفعال الخضر، نجدها تتمظهر بشكل أو بآخر في مواضع أخرى في ثنايا هذه السورة الكريمة، ومنها إتخاذ قوم فتية الكهف مسجدا على قبورهم، تخليدا لذكراهم، وكان هذا الأمر جائزا ومشروعا في دينهم، على خلاف ديننا الإسلامي الحنيف، الذي نهانا عنه لتعارضه مع صفاء الاعتقاد.

ونجد أن في نصح صاحب الجنة المؤمن لصاحبه المغرور عمل إنساني باقتدار.

وهناك عمل ذو القرنين للسد /الردم الذي يحمي ويقي أولئك القوم من قوم يأجوج ومأجوج؛ المفسدون في الأرض، هو عمل خير وفيه إنسانية جلية.

بقي أن نشير إلى أن فعل الخير وعمله ونشره في المجتمع / الأمة هو صمام أمان، ودرع وقاية، وترس حماية من الفتن التي كانت محورا من محاور سورة الكهف. فكم من جرائم ارتكبت، ونفوس ودئت بغير وجه حق، نتيجة تقصير المجتمع عموما في فعال الخير، وصنائع المعروف.

إن سجلات السجون والاصلاحيات، وأقسام الشرط وغيرها من الجهات الأمنية تشير لعدد كبير من جرائم القتل والسرقة وتعاطي المخدرات والاتجار بها وترويجها، وانتهاك الأعراض سببها عدم توفر الحد الأدنى من ضرورات الحياة لمرتكبيها، بعد أن قصر المجتمع أفراداً ومؤسسات في الأعمال الخيرية التي يفترض أن تقدم لهم على جميع المستويات؛ التربوية والتوجيهية والمالية والصحية والإجتماعية وماإلي ذلك.

هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

......