قبل سنوات، سألت مدرس اللغة الإنكليزية الأميركي الذي يدرّسني عن أغرب المواقف التي حدثت له مع الطلاب الأجانب، فقال لي، وهو شخصٌ لا ينقصه الذكاء أو الخبث، أن أغربها كان مع الطلاب الإيرانيين. أضاف مستنكراً "هل تصدّق، أنهم يعتقدون أن إسرائيل ثكنة عسكرية... لا يعتقدون أنها دولة على الإطلاق، يرون أن جميع الإسرائيليين جنود".
لم يكن المدرس الأميركي (مايكل) غبياً، أو جاهلاً. كان واسع الاطلاع، ومتخصصاً في اللغويات. يدرّس الإنكليزية في مدينة قريبة من بلدته الصغيرة في الغرب الأوسط الأميركي، ولا يحب مغادرة بلدته حتى للسياحة. كنا نتناقش حول المنطقة العربية، حاضرها وتاريخها، بأدق التفاصيل التي كان يعرفها تماما.
يمثل مايكل ببساطة الرؤية المعاكسة تماما لرؤيتي، ربما تلك اللحظة كانت أول لقاء لي مع "الآخر" في الموقف من فلسطين. أجبت مايكل، بعد حديثه عن الطلاب الإيرانيين: "نعم، هم على حق، إسرائيل ثكنة عسكرية". لم يُجب لحظتها، واكتفى بالصمت. لكننا تحدثنا مطولا عن فلسطين في لقاءات أخرى.
لم يكن الأمر متعلقا بما يحدث في فلسطين المحتلة أو "إسرائيل"، بل يرتبط بصورة أساسية برؤيتك السياسية لما يحدث. كان مايكل يرى الوجود الإسرائيلي مشروعا، وأن إسرائيل "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، بينما أراها دولة احتلال، وكياناً شاذاً في المنطقة، إضافة إلى أنها دولة غير ديمقراطية، وكيان تمييز عنصري.
من الصعب تخيل رؤية "وسط" بين دولة الاحتلال والدولة الطبيعية، والديمقراطية الوحيدة، ودولة التمييز العنصري. هذا ما يجعل رؤانا متناقضةً، لأنها مبنية على سرديتين متناقضتين جذرياً، والواحدة منهما تنفي الأخرى تماما. العودة إلى مايكل اليوم جاءت من وحي أن "الآخر" في القضية الفلسطينية لم يعد أجنبيا يعيش في الغرب الأوسط الأميركي، بل أصبح أقرب لنا مما نتخيل.
في كتابه "ما بعد إسرائيل... نحو تحوّل ثقافي" يتطرّق مارسيليو سفيرسكي إلى التغيرات الثقافية في الكيان الصهيوني. ولمارسيليو قصة ملفتة، فهو يهودي أرجنتيني هاجر إلى الأراضي المحتلة، ثم لأسباب مختلفة، هاجر منها إلى ويلز. وهو مؤلف عدة كتب وصاحب دراسات ناقدة لدولة الاحتلال.
في كتابه هذا بالتحديد، يتطرّق سفيرسكي إلى الثقافة العسكرية لدى الكيان الصهيوني، إضافة إلى التململ منها لدى فئات محدودة من الطبقة الوسطى الليبرالية، والمهمشين من اليهود الشرقيين "المزراحيم". يحاول الكتاب رصد لمحات التململ، لا يبالغ في تقديرها، ولا يراها ملمحا عاما.
يتطرّق الكتاب إلى ملامح "العسكرة" في المجتمع الإسرائيلي. كيف يتحوّل "التنزه" إلى طقس صهيوني، يدمج العسكرة بمحاولة غرس "المهاجرين اليهود" في أراضٍ لا ينتمون إليها إلا نظريا (من وجهة نظر صهيونية). وكيف يتحوّل "المدرس" إلى جندي تعبئة عسكرية، يحاول تعزيز رؤية لقيام الكيان الصهيوني تزوِّر وتتجاهل كل تاريخ البشر والأرض في فلسطين، تاريخ ما قبل 1948.
يتحدّث عن ممارسات الأسر اليهودية المبجلة للجيش والعسكرة، والمناهضة لإعطاء الفلسطينيين أي حقوق، الأمر الذي ينسحب على "الناخب" في العملية "الديمقراطية" الدائرة في دولةٍ لا يراد لها إلا أن تكون في إطار مزايدات، حول الاستيطان وسلب الفلسطينيين حقوقهم.
يكتب سفيرسكي "نحن لا نتحرك من البيت إلى المدرسة إلى الجيش في قطاعاتٍ سرّية؛ نحن نسكن كل هذه المجالات في آن واحد، بسبب ارتباطها بمركز مشترك. قد نفكر بأننا في مدرسة، أو في بيت، لكننا نصبح جنوداً؛ نحن نصبح مواطنين إقصائيين، شعبا مختارا، نحن نصبح صهاينة".
تأسس الكيان الصهيوني على يد عصاباتٍ إرهابية، فلماذا يُستنكر أن يكون استمراره مرهوناً بعمليات الإرهاب نفسها التي أسسته أول الأمر؟ وهنا، يأتي خطاب موشيه ديان في 1956 في جنازة روا روتبيرغ، كما ينقل سفيرسكي، ليعلن إرث الكيان الصهيوني الراسخ "كُتب علينا أن نقاتل"، العبارة التي يراها الصهاينة قدرهم.
(صحيفة العربي الجديد)
https://www.alaraby.co.uk/opinion/2017/3/29/%D9%85%D8%A7%D9%8A%D9%83%D9%84-%D8%A3%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%AE%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-1