البعض يستنكر اقحام عبارات من قبيل : العراقيين الاصلاء – الهوية العراقية الاصيلة – الاغلبية الاصيلة – الامة العراقية ... الخ ؛ في كتاباتنا وكتابات البعض ؛ ويستهزئ بهذا الطرح قائلا : (( ...  الدولمة العراقية الأصيلة ... على اعتبار أن براءة اختراع البهارات وباقي مكونات الدولمة براءة اختراع عراقية بامتياز!! )) 

ومن ثم يتحول الى النقد الموضوعي  و اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ  اﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ؛ قائلا : (( ... ما معنى تكرار هذه اللازمة في كل تقرير إعلامي ؛ هذه الظاهرة الدخيلة على مجتمعنا العراقي... ، غير أن قائليها يجهلون أبسط حقائق علم الاجتماع والتي تتلخص في «أن المجتمعات ليست شبيهة بالبناء الجامد، وإنما هي كيانات حيَّة دائمة الحركة والتغيّر»... )) . 

وبعض المهرجين هرف بما لا يعرف من خلال احدى الفيديوهات في قناة اليوتيوب ؛ وقرن الدعوات القومية وصخبها الطوباوي  بالدعوة للامة العراقية واصالتها الوطنية و واقعيتها الملموسة  , علما ان الفرق بين الدعوتين كالفرق بين الثرى والثريا . 

من اوضح الواضحات ان للأوطان هويات متعددة  تميز بعضها عن البعض الاخر , وكذلك تاريخ الدول مختلف ومتنوع , فليس من المعقول مقارنة دولة نشأت قبل قرن او ثلاثة قرون من الزمن  بدولة عمرها يمتد لآلاف السنين , ولا من المتعارف ان تمثل  الثقافة الصينية الشعب المصري , او ان يدعي البعض ان الهوية الروسية هي عينها الهوية الوطنية الصومالية ؛ او ان يدعي الاكراد ان صحراء نجد ارضهم التاريخية ... الخ ؛ مثلا , فالهوية الحقيقية والاصيلة هي تلك الهوية التي تتبلور من خلال التجارب والوقائع التاريخية واللغة والعادات والتقاليد  والعرق والدين والثقافة والمعتقدات التي يؤمن بها هذا الشعب او ذاك ,  بخلاف الهوية المزيفة او الدخيلة او الحديثة او المفروضة بالقوة .

نعم قد تكون الهوية الوطنية الجامعة عبارة عن هويات مكونات الوطن المختلفة , فلكل جماعة ومكون هوية فرعية , وهويات الجماعات الوطنية كلها تصب في بوتقة الهوية الوطنية الجامعة ,  فهذه الهوية الوطنية الجامعة يجب أن تُعرِّف تاريخ الوطن على أساس تاريخ كل مجموعة، ومكتسبات الوطن هي مجموع مكتسبات هذه المجموعات ... ؛ بشرط ان لا تتقاطع تلك الهويات المكوناتية والشخصية مع الهوية الوطنية الجامعة والتاريخ الوطني , اذ ينبغي ان تؤدي هذه الهويات والتي هي  بكونها تعريف للفرد أو للجماعة او للمكون ؛  دورًا وظيفيًا ربما لحماية وجود الدولة العراقية , و مكتسبًا وطنيًا يصب في تعزيز مكونات الهوية الوطنية الجامعة ، و إن توظيف الهوية في هذا الاتجاه الصحيح  يسهم في الإضافة لموروث الامة العراقية العريقة . 

وعليه ؛ متى كان التغني بحب الوطن , وعشق كافة مكوناته ومفرداته , وتاريخه ومخرجاته , وترديد عبارات التمجيد به والاشارة له , وتناول عادات وتقاليد الامة العراقية بالبحث والدراسة والنقاش , وتسليط الاضواء على المنجزات الوطنية , والتباهي بالعادات والممارسات والخصوصيات العراقية ... الخ ؛ يعد من المثالب التي يعير به المرء او التي لأجلها يستهزئ به , او يعتبر من الاخطاء المعرفية والهفوات العلمية ؛ او التي  تؤدي بالمرء الى الابتعاد عن الموضوعية والحيادية ...؟! 

فلو صرح الايراني بأن أكلة (قورمة سبزی أو “يخنة الخضار” ) ؛ تعتبر من ألذّ الأكلات الإيرانية وأكثرها شعبية بين الإيرانيين ... ، او اذا قال المصري : ان طبق الملوخية يمثل  أحد أشهى وأشهر الأطباق التي تقدم على المائدة المصرية خاصة بمحافظات الدلتا كونها الموطن الأصيل لزراعة هذا النبات ... ؛  وترتبط الملوخية بتاريخ قديم ،اذ تشير  بعض الروايات  إلى أن كلمة ملوخية كلمة فرعونية قديمة تنقسم إلى شقين "خية" نسبة إلى النبات الذي تطهى منه و"ملو" وتعني كلوا أو تناولوا ... ؛ مثلا , هل يتعرض للاستهزاء ام ان الاستهزاء يشمل كل مواطن عراقي يسعى الى تعزيز الروح الوطنية في نفوس العراقيين , ويفتخر بتاريخه وهويته فقط ؛ ويعتز ب أكلة ( الزوري – وهي كلمة سومرية قديمة وتعني الاسماك الصغيرة - ) مثلا , كما تفتخر باقي الشعوب بعاداتها وتقاليدها ...؟!

ومن قال ان الانتماء للهوية الوطنية والاعتزاز بالتاريخ الوطني والثقافة الشعبية ؛ يتقاطع مع حركة المجتمعات وتطورها وتحولها ؛ كي يتهمنا البعض بالجهل وعدم الاطلاع على النظريات الاجتماعية ...؟! 

فمثلًا إذ ما نظرنا للهوية العراقية عبر مسير التاريخ نجدها تنتمي للحضارات القديمة – كحضارة العبيد وسومر-ابتداء، ثم الحضارة الاكدية والبابلية والاشورية ؛ ثم توالي الممالك العربية كمملكة ميسان والحضر والحيرة , بالإضافة الى تفاعل الديانات الوثنية والتوحيدية واليهودية والصابئية والمسيحية والمانوية وغيرها , بالإضافة الى الغزوات والاحتلالات الخارجية  , ومن ثم اسفر تلاحم النبط والعرب عن انبثاق الاسلام وانتشاره في بلاد الرافدين وشيوع اللغة العربية بين اغلبية سكانه ... ؛ ومن ثم توالت الهجرات والاحتلالات  الاجنبية عليه ايضا ؛  الا ان هذا لا يعني اختفاء التاريخ العراقي او ضياع الهوية الوطنية , او الادعاء بان الثقافة الايرانية او التركية او البريطانية هي التي تمثل حقيقة وجوهر الامة العراقية وتعكس ثقافة بلاد الرافدين .

نعم ؛ في كل لحظة من التاريخ نجد ذلك المكون  او تلك المجموعة  تتفاعل مع مجموعات اجتماعية أخرى، وقد تتأثر هذه المجموعة او تلك بالثقافات الخارجية وقد تعيد تعريف هويتها تبعا لهذا الحراك والتصاهر والانصار الثقافي احيانا ؛ وقد تضمحل هويات جماعات وتذوب في الهويات المكوناتية الاخرى ؛ الا ان الهويات التاريخية العريقة والمتجذرة في نفوس ابناء الامة والوطن  تبقى ما بقي الدهر ؛ ومن سابع المستحيلات ان تذوب الهويةالوطنية  القوية في الهويات الضعيفة او الوافدة او الطارئة  ؛ نعم قد تتطور الجماعات وتتقدم الدول وتتغير الاجيال الا ان الحقائق التاريخية والجينات الوراثية تبقى كما هي . 

وان اشادتنا بالموروث العراقي ؛ لا يعني اننا من دعاة التحجر والماضوية بصورتها السلبية وعدم مسايرة العصر والتطور الحضاري الكبير  , بقدر ما يعني اننا مع الهوية الوطنية الحقيقية والثقافة العراقية الاصيلة والتي تميزنا عن الاخرين ؛ فدورنا هنا دور الكاشف والناقل للحقائق التاريخية واﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟية  اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ فحسب , وليس دور الناقد  ؛  فقبل مائة عام تقريبا استعمل الفيلسوف الأمريكي جون ديوي مصطلح "القديم المستمر" في كتابه الرائع (الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني)، ليقصد به مجموعة العادات والتقاليد الموروثة من الأجيال الماضية، والمستمرة بتأثيرها السلبي في أنماط التفكير والسلوك والقيم للأجيال الحاضرة، مما ينتج عنه إعاقة تحرير دوافع الأجيال الأخيرة ولجم طموحاتها؛ لخضوعها الواعي وغير الواعي لعادات وتقاليد الأسلاف.

هذا القديم المستمر هو ما يذهب بعض كتابنا إلى تسميته بـ "التراث"، وهي تسمية ملطفة كثيرا للمعنى، وقد تكون-أحيانا-مشجعة على عدم الالتفات في مجتمعاتنا إلى ضرورة نقد وغربلة ما وُرث من أسلافنا البعيدين ، على الرغم من الحاجة الملحة إلى هذا النقد والغربلة.(1) 

.......................................................

  • القديم المستمر في ثقافتنا السائدة / أ. د. خالد عليوي العرداوي .