لا تخف .. نعم، لا تخف من خوض معارك التي تواجهك كل يوم، فالمعارك جزءٌ من حياتنا اليومية، كلٌ منا يملك حلبة "ملاكمة" خاصة في داخله، ولكلٍ منا حلبة يوم يُساء فيها ويومُ يُسر، قد يُضرَب اليوم، وقد يَضرِب غداً .. إنها حلبة الحياة .. ولكن هل سمعت أنت عن الرجل الذي حول أمريكا بأكملها إلى حلبة ملاكمة؟ 

Image title

ظهر محمد علي في أمريكا ليُمارس لعبة الملاكمة في وقتٍ كانت أمريكا عبارة عن حلبة عملاقة تجمع بين السود والبيض، حلبةٌ بلا بطل، البقاء فيها "للأكثر عنصرية" .. في كل حلبة حلبة أُخرى .. ومن حلبة إلى قلب حلبة .. حمل علي في قلبه حلم توحيد هذه الحلبات لملاكمة واحدة، الملاكمة التي كرس لها حياته، ملاكمةٌ من جولةٍ واحدة فقط، يفوز فيها، أو تنتصر على إنسانيته العنصرية ..

لم يكن أسلوبه المضحك أو ثقته الإستثنائية قط سبباً في تأثر الناس به .. ولكن إيمانه بقضية الشعب ودعمه للحقوق المدنية لكافة أطياف المجتمع جعلت إيمانه الراسخ يحركه لـ يخاطب الزوايا في كل نفس تحلم بحلم الإنسانية .. ومن هنا بدأ علي بممارسة الملاكمة في الحلبة وخارجها، يسدد هنا وهناك  .. وبدأ الأمر يتخذ منحنى صعب على الصعيد المهني حين طُلِب علي للمشاركة في حرب فيتنام،  لرجلٍ مثل محمد علي، لم يكُن ليخوض حروباً ليست حروبه، ولم يكُن لـ يناصر قضية ثم يهدمها حين يحارب أشخاص لم يحاربوه  .. وأن الفيتناميين لم ينعتوه بـ "زنجي" أو يمارسوا أشكال العنصرية ضده ليستحقوا أن يحمل ضدهم بندقية .. وطالما أنه لم يفتعل الحرب معهم ولم يفتعلوها معه .. فـ هو لن يتدخل! قرار علي هذا كلفه الكثير .. وأول ما كلفه هو سحب لقبه منه بقرار المحكمة .. مما أثر على مسيرته كـ مُلاكم .. ولكنه لم يكن ليندم على اللقب بقدر ما كان سيندم على حريته، فكما يقول هو : " احتفاظك بلقب بطل العالم لا يعني شيئًا إذا لم تشعر أنك حر. "

Image title

بعد سنوات قضاها علي يجوب المجتمعات لـ يقاتل العنصرية .. قررت المحكمة أن تعيد له رخصة الملاكمة .. فعاد علي كـ بطلٍ للشعب .. وليس بطلاً للملاكمة، فاللقب كان ملك جورج فورمان، الذي لم يخسر 40 مباراة، ولكن علي حصل على شهادة نجاحه بأنه مهما ضغطوا عليه، نجح في أن يسحب جزء من المجتمع الأمريكي خارج حدود العنصرية ..

وبطريقة أو بأُخرى حصل محمد علي على فرصته الذهبية، ليستعيد اللقب، وليدحض كل شك حوله بأنه انتهى، أنه لم يعد بتلك القوة، أن لم يعد بتلك الخفة، ولكن أحداً لم يكن يملك ثقة علي في نفسه .. والتي عُرفت عنه بأسلوبه الذي يجعلك تشك أن هذا الرجل مجنون، أو هذا الرجل أسطورة .. لأنه لا أحد يجرأ بأن يخرج على الملأ وسط حلبة الحياة ليقول بنبرة تحدي : "سأريكم كم أنا عظيم"

Image title

لعبت المادة دورها لتكون زائير مكان الحدث المنتظر، (فرئيس زائير دفع مبلغ مجزي مقابل إحتضان هذه المباراة، ويُقال إنه لم يشاهدها من الحلبة بل شاهدها في منزله لأنه كان يخاف أن يغتالوه).

وطار علي وفورمان إلى زائير بعد فترة كبيرة من الترتيبات .. وفي زائير .. كان علي في وطنٍ آخر .. كان بين اخوته، وعائلته، عائلته التي كانت تنحدر من نفس اللون وتشاركه نفس القضية وعانت من نفس ما عانى منه، لذلك كان علي قريب من الحشود التي كانت تردد دائماً "اقتله يا علي" .. "اقتله يا علي" .. محمد علي يسمعها في كل مكان .. ويستمد قوته من هذه الكلمة في حيثما تنقل .. حين يمشي .. حين يتمرن .. حين يتحدث .. كانت زائير كلها ملتفة حول محمد علي قُبيل نزاله المنتظر مع جورج فورمان، ولكن : "لما هو ولست أنا؟ لماذا هو؟ هل لأنه أسود؟ ولكن أنا أكثر منه سواداً " !! كان فورمان يسأل، بيد أن فورمان لم يُدرك أن العالم لا يحتاج إلى المزيد من المُكررين .. العالم يحتاج إلى أولئك المُفكرين .. الذين يقودون الثورة الأخلاقية لينتصروا في حلباتهم الخاصة .. لم يُحبوا علي لأنه أسود .. ولكنهم أحبوه لأنه مناصر لـ العدالة المجتمعية، مناصر للإنسانية، التي لا تعرف لون أو عرق أو جنس معين .. إنك لا تحتاج لأن تكون إنساناً، أكثر من أن تتذكر أنك واحد منهم!

Image title

قبل النزال في غرفة علي، كان الجميع ينظُر لـ علي وكأنه ذاهب إلى المشنقة، فورمان الشاب، وعلي الذي تقارب مسيرته من نهايتها، فورمان الذي لم يخسر في سجله بـ 40 انتصار، وعلي الذي لم يدخل الحلبة منذ مدة .. دخل علي إلى الحلبة، 6 جولات، علي يتكأ على الحبال، علي يتلقى اللكمات، زائير تهتف لـ علي، وعلي لا يُجيب، فورمان ينهال باللكمات، من هنا، ومن هناك، وعلي الذي كان يطير كالفراشة ويلسع كالنحلة ظل حبيس الحبال والدفاع، 6 جولات الكل أجزم بعدها إن علي يتلقى أسوأ عقاب في حياته، ولكن كبرياء البطل لا ينكسر، فـ علي كان يهمس لـ فورمان مع كل ضربة : "هل هذا كل ما لديك يا جورج؟ اضرب بقوة أكثر .. توقعت أكثر "، وفورمان كالثور الهائج يضرب ويضرب ويضرب .. أثناء الجولة السادسة، سدد فورمان لكمة "جانبية" لـ علي، وبينما هو كذلك، همس له علي : هل هذا كل ما لديك يا جورج؟ .. ثُم بدأت بعدها أسوأ لحظات في حياة فورمان .. نهض علي كالوحش الثائر والذي صدم الجميع أنه كان يستنزف فورمان، وأكال له اللكمات الواحدة تلو الأُخرى .. حتى حانت اللحظة المنتظرة .. علي يُسقط فورمان بالضربة القاضية!!!

كان بإمكان علي أن يضرب فورمان ضربةً أُخرى .. ضربة تجعل فورمان يسقط إلى الأبد .. ولكنه كان مستمتع بمشاهدة فورمان يترنح، كان مستمتعاً بمشاهدة فورمان يسقط وزائير تردد : " اقتله يا علي " !

Image title

من شاهد "نزال القرن" بين الأمريكي مايويذر والفلبيني باكايو، لابد أنه لاحظ أن القاعة كانت تصفر على مايويذر، رغم أنه أمريكي، وكانت تُشجع باكايو، رغم أنه من عرقٍ آخر .. وكانت زائير تساند علي رغم أن فورمان أكثر سواداً منه .. فالجمهور لا يبتسم لـ مَن هو أفضل .. أغنى .. أوسم .. بل لمن يفرغ كبتهم الإجتماعي في الحلبة على هيئة لكمات، من يحقق المساواة بالنسبة لهم حتى وإن كانت بالطريقة التي سُلبت منهم .. القوة .. لذلك فضلت زائير علي، ولذلك خرج علي من حلبة أمريكا فائزاً ضد العنصرية، تماماً مثلما خرج من زائير وهو يكتب نهاية فورمان.

في الحياة هناك الكثير من الحلبات .. كلٌ منا لديه حلبته الخاصة .. وفي داخل كل شخص منا نزاله الخاص .. لن يؤمن أحد بك طالما أن إيمانك بنفسك ضعيف، ردد دائماً مثل علي : "سأريكم كم أنا عظيم"، لا يهم إن كنت أسود أو أبيض، المهم أنك في نهاية الجولة لن تقول كـ فورمان : أنا أكثر منه سواداً، لن تقول لماذا أنا ولماذا هو بالذات، بل ستقول كـ علي : هل هذا كل ما لديك؟ فالأمر لا يتعلق بـ قوة الضربات التي تتلقاها، الأمر يتعلق بكم الضربات التي ستتلقاها وتتابع المضي قدماً، قد تتكأ على حبال الحياة أحياناً لتتلقى اللكمات، وقد يضُن الجميع أنك سقطت ولن تنهض مجدداً، ولكن عليك أن تتحلى بالصبر، لتُثبت لهم أنك كنت على صـــــوابٍ دائماً .. لتخرج في نهاية النزال .. علي .. وليس فورمان !



 "كنت أستعد للفوز بواحدة من أسهل المباريات في حياتي. كل التوقعات كانت تصب في صالحي بل وبالضربة القاضية! دخلت حلبة الملاكمة، لقنت ذلك الرجل درسا، كنت أكيل له اللكمات لأكثر من ست جولات متتالية. سأقضي عليه لا محالة، كان الأمر سهلاً! في الجولة السادسة سددت له لكمة جانبية، ثم سمعته يهمس لي: (هل هذا كل ما لديك يا جورج؟). بعدها بدأ أسوأ كابوس في حياتي!".

جورج فورمان بعد نزاله مع مُحمد علي كلاي.


تحياتي، دين.