الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
منذ أن برأ الله تعالى البشر والتآمر يحاك بينهم ، ومبدأ ذلك ماكان من إبليس قبالة ربه تجاه أبويهم، ثم سرت عدواه إلى ابنيْ آدم عليه السلام ، قال تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} سورة المائدة.
وهذا ماورث توجس الإنسان من ابن جنسه دوما ، سحب تبادل ثقة الناس من بينهم ، فتعاملوا بالحذر الدائم ، والتحفظ الكثير ، بـما لم تستـقم الحياة ، ولم تمنح البشرية التعايش الاجتماعي والأسري والمهني وحتى السياسي ، مع الإقرار بمعاملات في مستوى الكرامة الإنسانية عند البعض من جهة أخرى ، بالرأفة بين الكثير وتبادل مظاهر النية العادية إن لم تكن الحسنة ، وخاصة من خلال الالتزام بالعهود والوعود.
والإسلام أهم نظام في الحياة ندب أتباعه إلى الوفاء بـها نشرا للائتمان وطردا لشاغل التألب ، قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ......(1)}سورة المائدة.
وقال تعالى :{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)} سورة الأنعام.
وقال تعالى :{وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)} سورة هود.
وقال تعالى :{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)} سورة الشعراء.
وغيرها من كلام الله الذي تعتبر نصوصه مواثيق الدين ومصادره.
إلا أن ما جسّد التخوف من المؤامرة ثبوت خيانة جانب من البشر على اختلاف مللهم ومذاهبهم ، ومنهم الذين ذكرهم القرآن الكريم، قال الله تعالى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)} سورة الأنفال
قال تعالى {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)} سورة الأنفال
ومن أشكالها المكر والخداع في التعامل والنصح والاستهداف ، فقد ثبت عبر عصور الزمن مكائد بالأخص من قبل الغرب ابتـغاء إضعاف المسلمين بمختلف الأفكار في المأكل والمشرب والملبس والاقتصاد والتربية والتعليم والسياسة ومناهج الحكم وغيرها من مجالات الحياة التي يراقب الغرب فيها كل صغيرة وكبيرة التماس المكانة فوق ذروة التـفوق ، وإجلاء لهم عن كل تألق.
قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} سورة آل عمران.
ففي كثير من المناسبات ينصح الغرب غيره بكل ما يفشل مشاريعهم عبر مستشارين وبعثات لتكسير كل نية في السطوع ، وتعطيل كل سبيل إلى التحرر من ربقته ، وقطع كل طريق إلى الاستقلال الكلي.
ومنها مخاتلات بني صهيون التي عرفت عبر الزمن بـ : {بروتوكولات حكماء صهيون} ، لكن الناس على مختلف مشاربـهم تعاملوا بالضروب اللازمة تجنبا لمضار الدسائس ، ومنهم المسلمون حيث التعامل مع الآخر حسب الظاهر واحتساب ماوراءه عند الله ، إلا أن تعامل الناس اليوم مع هذه الظاهرة على أضرب :
1 / المتوجسون من كل ما يأتي من غيرنا ، بتطرف ممقوت رافض لكل باب يفتح نحو الغير مخافة الوقوع في فخ الانحراف ، وهؤلاء يخلطون بين الولاء والاستـفادة ، ولا شك أن لهذا المنهج أضراره الكبيرة وعلى رأسها خسران الكثير من المنافع الوافدة والتي بالإمكان إضفاء الطابع الشرعي عليها لو أثبتت التجربة صلاحيتها لنا ، ومما نعرفه عن الإسلام أنه يستـفيد من كل التجارب البشرية الناجحة ، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بـها ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفض كل ما يأتي من غير المسلمين ، فهذا صهيب الرومي يشير عليه بفكرة إثارة الغبار وراء جيش المسلمين لئلا يراهم العدو فيعمل بـها ، وهذا سلمان الفارسي يشير عليه بفكرة حفر الخندق في غزوة الأحزاب فيعمل بـها.
ولقد حصل لي أن قرأت الكثير من كتب الغربيين منهم ديل كارنيجي ، توني بوزان ، ستيفن كوفي ، وغيرهم ولم أضيع فرصة الإفادة منهم فيما لا يتعارض مع القيم التي أكنها.
2 / المحتالون على رعاياهم من حكام الدول ، وأتباعهم ، ممن يحيل كل أزمة في البلد إلى أيادي خارجية صرفا لهم عن الداء الحقيقي الداخلي ، وإزاحة للفكر من إدراك المسبب ، إبقاء على التسلط ، واستـغفالا للعقول ، وإسكانا للتمرد.
3 / الغافلون المبالغون في التميع والتدنيس وقبول كل ما يفد من الغير ، دون وجل من أضراره ، لعدم اهتمام بالحفاظ على الأصول ، المنكرون لوجود المؤامرة أصلا ، ومبالغة في الصدق مع المنافق ، والبر مع المحتال.
4 / المتبصرون الذين يرون لكل شيء فائدة ولو من زاوية معينة ، العارفون لحسنات المبدع ولو كثرت سيئاته ، كما أن له سيئات ولو كثرت حسناته ، المحكمون للعقل والتمييز ، المالكون لقيم يعتبرونـها ويرتبونـها من بين مبادئ الزمان ، فيختبرون ويزنون بـها كل ما يفد إليهم ، وهؤلاء كذلك على اختلافهم ، قد نجد منهم المسلم الذي يتصرف بـهذا الفرز مع الطوائف الأخرى ، وغير المسلم الذي يتعامل بالتصنيف نفسه مع المسلمين، متـفتحين على بعضهم ، لا يرون للذعر من الطروحات مكانا.
والذي أراه ، هو ضرورة التعايش مع كل الأجناس ، والأفكار ، والاعتراف باختلاف صنوف البشر في مخرجات عقولهم ، مع الحنكة في التعامل معها ، بتـفحصها واختبارها بالعقل والدين والعلم ، ثم الإقبال على نافعها وهو للجماعة قبل الفرد والإدبار عن ضارها وهو على الجماعة قبل الفرد.
فلا ينبغي التوجس من قراءة كتاب ألفه غيرنا ، أوحضور محاضرة له ، أوصناعة ، أوتقنية، أوغيرها ، مادام الحصن المنيع موجودا ، مع الإقرار بالتآمر حتى من بني جلدتنا ، إنما التدبير في حسن التحصن ضد الفاسد مع معرفته ، والأخذ من النافع مع معرفته كذلك ، ولاضير حتى من غربلة الفكرة الواحدة ، ولو قصد منها التآمر ، فأفاد منها ما يصلح ، ودرء غيره.
لأن الإفراط في التخوف من الغير ومخططاتـهم ومكرهم وخداعهم قد يحرمنا منافع جمة وعلوما كثيرة ، ويفوت علينا منها فرجا من مضايقنا ، وتشع لنا حلولا لكثير من مشكلاتنا، وقد نمتهنها أفكارا مبدئية لمشاريع كبرى لمؤسساتنا أومختبراتنا أومصانعنا أوغيرها من مهمات الأمور.
ومن جهة أخرى فالإفراط في التعامل مع أفكار الغير بغفلة دون تمحيص ولا عناية قد يوقعنا في مهب خططهم نحصل به انحلالا خلقيا أوحتى تبعية في كل مجال.
ولا يحصل ذلك إلا بالـمرونة ، فهي التي تـمنح الهدوء النفسي وتسكب الراحة المعنوية ، كي يقارن الفرد بين الدخائل أوحتى بين دفات الطوية الواحدة ، أوتـمكنه من الإفادة والحذر في وقت واحد ، فلا يقع الإنسان في إفراط التوجس ولا تفريط الغفلة.