بقلم/ إبراهيم الدويري
سعدت بمتابعة حلقتين من برنامج "أسمار وأفكار" الذي يقدمه العزيز الأستاذ أحمد فال الدين؛ تناولتا كتابيْن من الكتب التي خالطت شغاف أغلب قارئيها، وتركت فيهم أثرا ماتعا وينبوعا من الحكمة الضاحكة والإمتاع الحكيم. أول الكتابين "مذكرات قارئ" وثانيمهما "الإسلام بين الشرق والغرب". الكتابان لمؤلفِين تجمع بينهما موسوعية مستوعبة لثقافتيْ الشمال والجنوب؛ مع رؤية نقدية تقدم في أسلوب ماتع، وتواضع جم وهيام بالحرية مع إشراق روح.
المؤلفان هما: علي عزت، ومَن دعاه "نبت الأرض وابن السماء"، الدكتور محمد الأحمري.
كانت الجلسة الأولى عن كتاب "مذكرات قارئ" للدكتور الأحمري. وهو كتاب عصي على التصنيف، أو هكذا أراد مؤلفه حين قال: "هذه الصفحات إن لم تكن علمية الهدف، ولا خالصة الصناعة في فن معروف ولا درب مسلوك من قبل فذلك أحرى بها وأقرب لهدفها، فإني ما تعمدت نسجها على مثال، ولا أن تكون شبيهة بغيرها." فالقارئ يجد فيه من السير الذاتية؛ شذرات مسلية مما يتعلق بمعاناة المؤلف مع ثمرات المطابع ونتائح القرائح؛ كالتردد بين سرعة النشر وتؤدة التجويد التي قد تحرم القارئ حقه من الاطلاع على ما كتب له في الوقت المناسب. وكالتعجب من الاندماج الممتع مع كتابات بن نبي رغم صعوبتها، وكالقلق على شخصية الكاتب التي قد تطمسها أيادي المراجعين والمعدلين والمنقحين. وكالأسف على مذكرات زكي نجيب محمود التي بقيت في مؤخرة طائرة إنجليزية لتعيش غربةَ أعرابيةٍ "قذفت بها صروف النوى" كما عاشت ثقافة صاحب "حصاد السنين" الإنجليزية غريبة بين الأعاريب.
ثم إنك واجدٌ فيه من النقد الاجتماعي ملاحظاتٍ طريفةً حول جدلية القراءة والعزلة، وعن طبقات الناس في قدر أفهامها، ومتى تقدم لها المعلومات، وعن رواج الكتاب في العالم المتخلف وكونه يحتاج شهادة من مدن الثلج ليشيع ككتاب الهند الذين لا يجدون في حواضرهم إلا صدى معكوسا من لندن وأخواتهاـ
وكنجيب محفوظ الذي لم ينل اعترافا عربيا حتى جاء بشهادة تزكية مجروحة من الغرب، وكملاحظة البربرة اللغوية. وفيها من خلفية المؤلف الحديثية النقدية تلك الأحكام الصارمة على بعض المؤلفين ومؤلفاتهم كالحكم على أعمال طه حسين الذي خدمته الشهرة ولم يكن سوى مروج للأفكار ولم يصل رتبة المفكر، وكالمقارنة الواعية بين بدوي وزكي نجيب حيث جَنَتْ على الأول ذاكرته فكان ناقلا محققا-وهو أمر يشترك فيه مع د. عمر فروخ حسب رأي شيخنا الخريمي. واستفاد الثاني من ضعفها فكان فيلسوفا منتجا؛ وتلك سلوى للمصابين بضعف الشريحة الخؤون.
وكالحكم على أساليب الشافعي والجاحظ والتوحيدي والرافعي الجزل وإن جانبته السهولة. وكالحكم على كتب محمد الغزالي التي علت على المبتدئ وقصرت عن المنتهي، والحكم على الأحكام النقدية لجبرا إبراهيم جبرا، وأسلوب جبران المختلف عما قبله وبعده والمشتهر بالخلاف لا بالأسلوب، وكالحكم على بعض الكتَّاب الذي يزيد ماؤهم على الطحين فيعجزون عن الموازنة بين الكلمات والأفكار كأنيس منصور. ولا أنس ملاحظته على أسلوب الألمان المعقد الذي أفسد روائع الأفكار والنصوص!
ومُلاحِظٌ فيه من وعي المؤرخ تلك الأخبار التي وصفها د. الشنقيطي خلال الجلسة بالغريبة؛ كتدخين الأفغاني صاحب الخاطرات التي كان نضال الكواكبي ضد الاستبداد تطبيقا لها. وكالخبر الذي أفرحني عن بيت سيد قطب المتسع الفناء العظيمِ الرماد، وعن التحقيقات المنشورة باسم أحمد أمين، وعن هتلر المجنون المغرم بالقراءة والبصير بالسياسة والتاريخ ومجرياتهما، وعن أم ماركس اليهودية التي أرادت أن يكون ابنها من أهل المال فاكتفى بكتاب "رأس المال".
ولم يغب حس المصلح الناصح عن الكتاب فثمة نصائح كثيرة غير تقليدية كالنصح بقراءة الأصول المؤسسة والمنابع الكبرى، والأخذ بحظ من من ذلك مهما صعب على القارئ.
ولعل سرَّ نجاح الكتاب ومتعتِه الغلابة يرجعان إلى أنه معاناة صامتة رافقت مهموما أربعين حولا فنفثها نفثة مصدور صادقٍ نجح في تقديم عمل فكري ضخم متشعب في أسلوب أدبي أمين يكلم الناس ويعلق عليهم، ويقدم معضلات الفكر في سياق خبري يراعي ظروف العصر وشغف الناس بالأخبار.
ومهما قلت فلن أوفي الكتاب حقه، فهو من الكتب التي تقول اقرأني تعرف قيمتي، ومن هنا أصل للتعليق على أساتذتي "السامرين المفكرين".
فقد ذكر الأستاذ محمد المختار الخليل أن الأفكار تقرأ من مصادرها ثم يرجع للمقرظين والنقاد، وقديما قال الأقدمون: لا تنقل المذاهب إلا عن أصحابها، ولن تعرف قيمة هذا التعليق حتى تقرأ عن الماوردي وابن تيمية وابن رشد وابن خلدون في المراجع المعاصرة ثم ترجع لما كتبوا فتجد أن الأهواء والأدلجات تلعب بالمتلقي لعب الجنرالات بخيارات الشعوب! وتعليقه الثاني أن لكل مؤلف كتابا واحدا فهو صحيح بالنسبة للنابغين؛ فلكل واحد منهم كتاب بلغ فيه النهاية القصوى ولا يسد غيره مكانه كرسالة الشافعي وموافقات الشاطبي ومقدمة ابن خلدون وكتاب سيبويه وطرة ابن بونه والمتنبي لأبي فهر وفقه الزكاة للقرضاوي ونظرية المقاصد للريسوني والسلطة العلمية والفكر الأصولي لعبد المجيد الصغير.
فلهؤلاء العظماء مولفات أخرى رائدة لكنها دون هذه المنابع الكبرى، أما غير النابغين المولعين ب"زيادة المكتبات وَرَماً" فجميع أعمالهم سراب بقيعة يحسبه القارئ شيئا حتى إذا تصفحه لم يجد غير حروف منهكة تصارع من أجل البقاء.
أما الروائي حجي جابر فأعجب بتواضع المؤلف رغم كثرة ما قرأ وجمعه بين الثقافات من غير انفصام. كما طرب لملاحظة سلبية القراء المعتزلين، وحذّر من برودة القراءة.
أما الدكتور القارئ الشنقيطي فقد حاول بخلفيته الأكاديمية تحديد موضوع الكتاب العصي على التصنيف فجعل موضوعه معاناة القراء والكتاب، وحذر من طول الأمد والانتظار الذي قد يحول دون خروج العمل، -وأذكر أن العلامة الشنافي مثل على ذلك فقد طالتْ عينُه فيما يكتب حتى رحل من غير أن يرى الناسُ جهودَ تسعين عاما من مصاحبة الكتب والأفكار واللغات والشعوب والخرائط للأسف- كما مثل الشنقيطي تمثيلا طريفا لعظمة بعض الأعمال ودناءة كاتبيها كجان جاك روسو.
أما القارئ المحترف الباحث محمد عبد العزيز والمقدم الواعي أحمد فال الدين فلم يترك لهما وقتا كافيا ليتحفانا بملاحظاتهما لكنهما اقتصا منهم في الحلقة الثانية عن علي عزت بكوفيتش. ولعلي أحدثكم هنا حينها.