هدي رب العالمين من سنن خاتم النبيين

هذه وقفات بينات، وتلك لمسات باهرات، وقفت عليها وقفا، وأولتها تأويلا، وسبَّلتُها تسبيلا، ومزاجها كان ماء عذبا زلالا، ونسيمها كان طيبا فراتا سلسالا.

وأعالجه في عشر مسائل:

المسألة الأولى: مسؤولية الراعي تجاه رعيته

روى الإمام أحمد في مسنده، والإمام البيهقي في دلائل النبوة، والإمام أبو يعلى، والإمام مقبل بن هادي الوادعي في كتاب صحيح دلائل النبوة، عن دكين بن سعيد الخثعمي رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه وحين: كانوا أربعمائة وأربعين رجلا، دخلوا، جاؤوا، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يسألونه الطعام، في هكذا مسؤولية ولي الأمر عن إطعام الجماهير العريضة من شعبه.

ويكأنها أمانة، ويكأنها ومن الوجوب، ما جعل الصحابة الأخيار، الأبرار، وهذا عددهم أربعمائة وأربعون رجلا، يروحون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وليطلبوا منه إطعامهم.

وهذا الذي قال عنه سيدنا، وإمامنا، وفاروقنا، عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه: "لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة، لظننت أن اللّه عز وجل سائلي عنها يوم القيامة"[1].

فمسؤولية ولي الأمر مسؤولية عريضة واسعة، تجاه الجماهير الذين قد بايعوه.

وإنه لمسؤول عن رعايتهم، وإكلائهم، وحفظهم، وأن يعيشوا عيشة هنية، رغدة، سعيدة.

المسألة الثانية: مسؤولية الرعية

ومع الوجوب أيضا على الرعية أن تكون ساعية، وليست تنتظر أن السماء تمطر ذهبا أو فضة. وهذا الذي فعله أيضا سيدنا، وإمامنا، وفاروقنا عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويوم أن ضرب أحدا بدرته! ولأنه ينتظر غيث السماء، أو أن تمد له عطاء معط، وإنما أراد له العزة، والشكيمة، والأنفة، وخير له، أن تكون يده السفلى؛ ومن منطوق حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: اليد العليا خير من اليد السفلى ، واليد العليا هي المنفقة ، واليد السفلى هي السائلة [2].

وجمعا بين مسؤوليتي الراعي والرعية، وإنهما؛ ومن هذه المثابة لمسؤوليتان كجناحي الطائر: مسؤولية الراعي جنبا إلى جنبا مع مسؤولية الرعية. وإذ بدونهما أو أحدهما ليسقطن الطائر!

فكل يسعى، وكل يعمل، وكل يجد، وكل يتعب، وكل ينصب.

والراحة النفسية أن يعمل العبد، ويكد؛ تحصيلا للقمة عيش حلال، يجد فيها المتعة، واللذة، خير من أن يسال الناس منعوه أو أعطوه.

وكما قال صلى الله عليه وسلم: لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه.[3].

وكما أن سنة  هذا النبي هي التكسب وهي الاعتماد على الله تعالى ومع حسن الاخذ بالسبب دينا.

وهذا هو الذي إليه أشار قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم أيضا: عمل الرجل بيده ، وكل بيع مبرور .[4].

ومنه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: ما أكل أحد طعاما قط ، خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده[5].

المسألة الثالثة: رحمة النبي بالولي

الحاصل أنهم طلبوا إطعامهم، وتوجيها بخطابهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضا ما ينم، ويكشف، عن كم كانت رحمة هذه النبي صلى الله عليه وسلم بأتباعه، ولما قد عرفوا ذلكم، وعاينوه، وأدركوه، وإلا لما راحوا إليه يسألونه!

 وهذا؛ ولعظم التبعات، والمسؤوليات، والتبعات، الملقاة على كاهل ولي الأمر.

ولما قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر الفاروق أن يطعمهم.

المسألة الرابعة: الإحالة في الفقه الإداري الإسلامي

وهذا من باب الإحالة في الفقه الإداري، وهذا سبق الإسلام الحنيف الخالد، إلى هكذا فقه، ومن يوم أن ظللت نسائمه، ورفرفت معالمه.

ولأن ولي الأمر لديه من المسؤوليات العظام، ما كان كثيرا، عظيما، واسعا، فضفاضا.

ومنه؛ جاءت مسألة الإحالة، وهذا من عظم شأن فقه القانون الإداري الإسلامي.

وحين كان منه التفويض، والتوكيل، والإنابة، والإحالة، في فروع وأبواب متعددة، موجودة في القانون الإداري هذا.

وهذه إدارة دولة؛ يحسن إدارتها نبي!

ومن ذا الذي يحسن، ومن أمام هذا النبي عليه الصلاة والسلام والبركات أبدا؟

وهذا الذي كان منه أيضا، وإلى أن يقوم الناس عليه، وأن يبسطوا هكذا دلائل النبوة، وأن يبسطوا حقيقة التوكل على الله تعالى أيضا.

ولكن منه أيضا، وحين يحيل الراعي على آحاد من رعيته، وإنما يختار، ولكل مهمةٍ، من يكون لأدائها صالحان وأن توكل إليه إدارة هذه المهمة، وعلى وجهها الحسن!

وهذا الذي يوقف عليه أيضا، ومن سنن هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولما كان قد اختار، وعلى غير وجه، من رعيته، ومن كان صالحا لأداء هذا الوجه، وعلى وجهه أيضا.

المسألة الخامسة: يقين نبي بربه

قم يا عمر! في هكذا يقين نبي برب النبي! وأنه تعالى لسوف يطعم حوالي الأربعة المائة النفر!

 ولعلها رسالة إلى عمر، وإلى غير عمر أيضا، وأن يقفوا على هكذا إعجاز النبي صلى الله عليه وسلم، وبركات هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم أن تحل مشكلة حوالي الأربعمائة النفر؛ ومن قوله صلى الله عليه وسلم: قمر يا عمر!

وهذه رسالة إلى العبيد، وحين يحسنون على الله تعالى توكلهم، وإحسان التفويض إلى الله عز وجل.

وانظر أيها العبد، ومن بعدها، ما الله تعالى فاعل بك! وحين تقوم ولتنفق تمراتك، التي أنت تحجزها، ورب العالمين يعلم، ما عليك إلا أن تقوم؛ ولترى بعيني رأسك ما الله تعالى فاعل بك! وبتمرك!

وليس يفعل رب بعبيده إلا خيرا.

حياء عمر الفاروق: وقد تبدى هذا واضحا، ومن حياء، قد قرأنا دلالاته، ومن على وجنتي الفاروق عمر!

ومن أين يطعمهم، وهو إذ يعلم أن تمرا، كان قد ادخره، ولمن يعول، وليقوم فيطعهم يومهم هذا!

ومن يدرينا، ولعله أيضا، لم يشأ أن يرى الناس، ما كان قد حجزه؛ ولأنهم قالوا يومها، وحين فتحها وإنها ومن كمثل الفصيم الرابض! أي الجالس ومن طول عهد، كان قد أحل به؛ ولعله ومن طول مكثه!

وهكذا قد كان رضاء عمر الفاروق؛ ومن قسمة رب، كان قد أعطاه، ومنحه، وأولاه.

طاعة الولي أمر النبي: ولكنه وعلى كل الأحوال، وليس عنده، ومن بد، وإلا أن يطيع عمر الفاروق النبي محمدا صلى الله عليه وسلم؛ ولأنهم يعلمون؛ ومن يقينهم قول ربهم الحق الرحمن سبحانه وتعالى ﴿إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39].

ومن فقه، وحين أخبر الفاروق نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، وأن ليس لديه، وإلا ما يكفيه، ومن يعول أربعة أشهر، وهو ذلكم الذي أسماه قيظا يومه هذا.

معنى القيظ: ولما كان معنى القيظ هذا، وفيما اشتهر عن العرب، وأنه هو ذلكم الذي يختزنه العبد، مدة أربعة أشهر كاملة، في ذات حجيزته، أو غرفته، أو مخزنه.

جواز الادخار: وفيه هكذا جواز أن يدخر الإنسان، وكما قد حكينا يوما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد ادخر قوت نفسه، وأهله سنة كاملة، ومن أموال بني النضير، ومما حكينا قبل.

وهذا الذي فعله سيدنا، وإمامنا، وفاروقنا عمر،  وحين كان قوله: ما عندي ما يكفيني والصبية إلا القيظ.

وجه الإعجاز: ونكرر؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقف بعمر، وبالصحابة الأخيار، على هكذا الإعجاز!

وإذ، وإنه، وكلما يزداد اليقين يقينا، والتوكل توكلا، والثقة بعهد الله تعالى ثقة، مضاعفة، مركبة، من أن الله عز وجل خزائنه ملآى، غدقا لا تغيض؛ ومنه فإن الله تعالى ولسوف يري عبدا له ما الله تعالى فاعل به، وحين عليه يخلف، ولما إليه يسوق رزقه، ومدده، وعونه، ولطفه، وسناه، ورضاه!

وحين قد أطاع الفاروق، وحين قد راح، ولما قد فتح، فإذا تمر كالفصيم الرابض.

وحين أكلوا، وشبعوا، وأخذوا، وإلا أن التمر الذي أكلوا منه، وشبعوا، ويكأنه لم يرزأ منه تمرة، ولو واحدة! أي: ويكأنه لم ينقص تمرة واحدة!

 وهذا محل الاستشهاد، وهذا موضع الإعجاز!

وكما نقول: دلالة بركة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحين أراد عليه الصلاة والسلام، أن يفقه الصحب الكرام الدرس، ويتقدمهم الفاروق عمر رضي الله عنهم أجمعين.

  ومما رأوا بأعينهم، أن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو ذلكم النبي المبارك، وهي تلك معجزاته المباركات أيضا، والتي منها؛ ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: ].

وأما ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: 45].

فعن دكين بن سعيد الخثعمي: أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن أربعون وأربع مئة نسأله الطعام فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر قم فأعطهم قال يا رسول الله ما عندي إلا ما يقيظني والصبية قال وكيع القيظ في كلام العرب أربعة أشهر قال قم فأعطهم قال عمر يا رسول الله سمعا وطاعة قال فقام عمر وقمنا معه فصعد بنا إلى غرفة له فأخرج المفتاح من حجزته ففتح الباب قال دكين فإذا بالغرفة شبيه بالفصيل الرابض قال شأنكم قال فأخذ كل رجل منا حاجته ما شاء قال ثم التفت وإني لمن آخرهم وكأنا لم نرزأ منه تمرة [6].

المسألة السادسة: أللشاة إلا ذراعان يا رسول الله؟

روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ورواه أيضا الإمام أحمد رحمه الله تعالى أيضا عن مبهم، ورواه غيره من حديث أبي رافع رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأخرجه الشيخ الألباني في مختصر الشمائل عن أبي عبيد أيضا.

والحديث هكذا يكون قد جاء من ثلاثة طرق، وكل منها يقوي بعضها البعض، مما يخرج منه على صحه هذا الحديث، وحين قال أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه، إن النبي صلى الله عليه وسلم قد طبخت له شاة، وفي حال، ولعله يقصد أن الطابخ ها هنا هو أبو رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن رواية أبي رافع أنه قال، لقد أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة، فطبختها، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم، أعطني الذراع، فأعطيته، ثم قال أعطني الذراع، فأعطيته.

ثم قال فأعطني الذراع، وكل مرة كان يأكل الذراع، صلى الله عليه وسلم، وليس يستغرب فعل كهكذا أكل؛ ولأن ذراع الشاة، ومما هو معروف، عبارة عن وكمثل السواك، أو أسمن قليلا! ولما كانت مغطاة ببعض من الجلد!

ولكن شاهد الحديث، ليس أنه أكل صلى الله عليه وسلم، لا، فشاهد الحديث، هو إظهار علم من أعلام نبوة هذا النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذه الأعلام، وتلك الأدلة، والدلائل، وإنما نحن نسوقها، في عصر، عمت فيه البلوى؛ لزيادة اليقين يقينا، وزيادة الإيمان إيمانا، ولا سيما، وكما نقول، ويكأن هذه الأزمنة التي قد غلب على الناس فيها الشهوات وعنفوانها، والمادة وطغيانها.

فهم أولاء الناس بحاجة، ونحن بحاجة بالطبع، إلى الرجوع إلى هذا المعين؛ زيادة الايمان، واليقين في قلوبنا، وتثبيت هذا الإيمان، في ألبابنا، وذلكم يقين أيضا.

يقول، فأعطيته فطلب الثالثة: أعطني الذراع!

فقال أبو رافع: يا رسول الله: إن للشاة لذراعين! ولما كان لها ذراعان اثنان! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطني! ولولا ما قد قلتَ ما سكت!

وهذا يفهم منه، برهان أن قد حطت البركة، في القدر، وصارت الذراعان أكثر من ذراعين؛ ببركة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبه يفهم، وكما أقول بركة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

والسنة، وكتب السنة مليئة غدقة، ومن كمثل هذا، وغيره، وبما قد خصصوه كتبا في دلائل النبوة، وأبوابها.

وما ذاك إلا لإظهار عظمة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم لقيمة هذه الأدلة، وتلك الدلائل، وهذه العلامات، في تثبيت قلوب المؤمنين، ودعوة غير المؤمنين أيضا، لهذا الدين الإسلام الحنيف الخالد.

فعن أبي عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناولني الذراع فناولته . ثم قال : ناولني الذراع . فقلت : يا رسول الله ! وكم للشاة من ذراع ؟ فقال : والذي نفسي بيده لو سكت لناولتني الذراع ما دعوت[7].

المسألة السابعة: ري حائط بمائة تمرة!

ومما رووا في هذا أيضا، ما قد رواه الإمام الطبراني، والإمام أبو يعلى، وهما هما من حفظة سنة خاتم النبيين، وإمام المرسلين، ورحمهم الله تعالى، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد مر على صاحب حائط، أو بستان، ويكأنه وجد الحائط، أو البستان في حاجة إلى ريه بالماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، أنه يرويه له وعلى أن يعطيه صاحب البستان مائة تمرة!

وهذا أيضا من ملاحة المشهد، وأن البستان، وإذ كان من حاجته إلى سقياه؛ براعة نبي، وفقه رسول، وأن يتنزل الأمر على واقع حال؛ وليلقى قبولا، وليكون آية!

فقال صاحب الحائط: يا رسول الله: أنا أجهد؛ حتى أرويه، يقول يعني أنا الفلاح، ابن الفلاح، الخبير، العملاق، في هذه الصنعة، وأعرف، يعني كيف يرويه، ورغم ذلك أجهد، ويشق علي، وأنصب، وأتعب.

فقال صلى الله عليه وسلم: أنا أرويه لك؛ وحافزا، ومنشطا، لإيمان القوم، وإسلامهم، وزيادة هذا اليقين برب العزة والجلال سبحانه وتعالى في علاه.

فروى النبي صلى الله عليه وسلم البستان، وأنه ببركة هذا النبي صلى الله عليه وسلم، روي الحائط، حتى كاد أن تغرق نباتاته، ونخيله!

فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أعطاه صاحب التمر المائة التمرة! فأكل النبي صلى الله عليه وسلم، هو وأصحابه منها.

وهذا شاهد آخر. وإذ وماذا يمكن أن تفي المائة التمرة حاجة صحب كرام مع نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم؟! ولسنا ندري كم كانوا معه، ولسنا ندري ما حال جوعهم، الذي كان معروفا عنهم يوهم هذا!

المسألة الثامنة: قناعة وإعجاز

يبقى شاهد الري والحال، وإنها لمعجزة، ومن أدلة النبوة، وشاهد القناعة أيضا! وإذ وما هو وزن المائة تمرة؟!

ولما كان الإعجاز وحين بدت معالمه،  ويكأنها لم ينقص منها تمرة واحدة أيضا!

وهذه الدلائل، وكما نقول، ومما قد حكيته، ومن زيادة اليقين يقينا، والإيمان إيمانا.

فعن أبي رجاء قال: وعن أبي رجاء قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل حائطا لبعض الأنصار، فإذا هو يسنو فيه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "ما تجعل لي إن أرويت حائطك هذا؟" . قال: إني أجهد أن أرويه فلا أطيق ذلك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "تجعل لي مائة تمرة أختارها من تمرك؟" . قال: نعم. فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغرب فما لبث أن أرواه حتى قال الرجل: غرقت علي حائطي. فاختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة تمرة. قال: فأكل هو وأصحابه حتى شبعوا، ثم رد عليه مائة تمرة كما أخذها منه». [8].

وأنف ذكر طرف من هذا، أو قريبا منه، ويوم أن أوفى سلمان الفارسي، ومن مكاتبته، ومن إلزامه غرس ثلاثمائة نخلة، ومن بركة فعل ذات يد هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان قد غرسها بيده الشريفة الطاهرة المطهرة أيضا.

المسألة التاسعة: تضافر الأدلة وأثرها في المستقبل

أخرج الإمام الحاكم في المستدرك على الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما أن أعرابيا جاء إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقال: بم أعرف أنك رسول الله؟

وهذا فيه دلالة على جواز أن يطلب المستقبل دليلا وبرهانا على صدق المرسل.

صحيح، وإنه قد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بآيات باهرات، ومما أنف، وصحيح وإن الآية الكبرى، لهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هي ذلكم القرآن الكريم.

وقد كان يكفي ذلك، لمن ﴿أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].

ولكن تواتر الآيات، وتوارد الأدلات، الباهرات، المعجزات، المبهرات، المدهشات؛ ولعله أن يؤثر في القلوب، فتقبل على محاب رب العزة والجلال تبارك وتعالى، ومن ثم وتدبر عن مكارهه، ومعاصيه أيضا.

ولهذا قال رب العزة والجلال ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53].

وإلا كان قد اكتفى رب العزة والجلال، بإنزال القرآن الكريم وحده.

موجب التذكير: الحاصل أنه، وهذا من أسباب أن نزف إلى الناس زفا هذه الإعجازات، وفي عصر عمت به البلوى، من طغيان المادة، على القلوب؛ فأصبحت هذه القلوب في حاجة إلى تحريكها، إلى داعية الإيمان برب العزة والجلال، وهكذا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن فريق آخر، وربما نحن من أمثال هذا الفريق، إلى زيادة الإيمان إيمانا زيادة، وكما أنف القول، وزيادة اليقين يقينا زيادة.

 فاجتمع طرفان: إسلام من كفر، ولعله أن تؤثر فيه هذه الآيات الداعيات المبهرات.

وزياده إيمان ويقين من آمن؛ ليزداد إيمانا مع إيمانه.

أسبابُ مَنٍّ وطلائعُ فضلٍ: وهذا الذي ساق من أجله، أو سيق من أجله، هو هذا الأعرابي، وحين سأل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم سؤاله هذا: بم أعرف أنك رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟!

وهذا الذي يجري دائما، مع مثل ذلكم صنف، وإلا أنه، وقد تعرض الآيات عرضا، ومن مثل ما قد تسمَّع الوليد بن المغيرة قرآن ربنا يوما، وإلا أنه أبي، وأدبر، واستكبر، ﴿فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾[المدثر: 24- 25].

ولذا؛ كان قد جاءه الرد الحاسم الجازم، من الله تعالى، ومن قوله سبحانه ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾[المدثر: 26- 30].

منة فرصة ومنحة أوبة: وهذا الذي جعل النبي محمدا صلى الله عليه وسلم يثير فيه داعية الاهتمام والإسلام، وألو قد عرض عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم آية! وليس يكون، ومن كمثل الوليد طريقا، وساء سبيلا!

وهذا أيضا من فقه الداعية، وأن يمسك بزمام المدعو! ويكأنه ومن فقه الداعية، والحال هكذا أن يكون واقفا على هذه الأرضية، الثابتة، من يقينه بربه تعالى.

وأنه سوف يريه الآية كما قد أرى الله نبيه الآيات. وعلاوة، ونكرر أن آية القرآن الكريم وحده، ويكأنها لكافية، ولكنه هو التضافر، ولعله أن يعمل في القلوب عمله.

وليس يمنع من تكرار هذه الآيات، أو غيرها.

ونؤكد، ونعيد التأكيد، ونكرر، ونعيد التكرار أن هذا دعوة لغير المسلم، وزيادة يقين المسلم.

ويكأن هذا عقد، طرفاه هو هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو هذا الأعرابي، ومحل العقد آية من آيات الله عز وجل، ومن  ثم ثمرة هذا العقد ونتيجته وموجبه، أن  يسلم هذا الأعرابي!

آيات تترى: ولما كان من هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن دعا عذق نخلة فأتاه ناقذا على الأرض، وتلك آية! ولما أن أمره أن يرجع فعاد، وهذه آية أخرى، ولما أن عاد ملتصقا بمكانه، الذي أتى منه، ومن النخلة، وتلك آية ثالثة!

والتاريخ الاسلامي، وسنن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ومما حافلا بمثل هذه الوقائع، ولما كان كثيرا.

فعن عبدالله بن عباس: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بم أعرف أنك رسول الله، فقال: «أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة، أتشهد أني رسول الله؟» قال: نعم، قال: فدعا العذق، فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض، فجعل ينقز حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ثم قال له: «ارجع»، فرجع حتى عاد إلى مكانه.[9].

وعن عبدالله بن عباس أيضا: أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من بني عامر فقال: يا رسول الله أرني الخاتم الذي بين كتفيك فإني من أطيب الناس . فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ألا أريك آية؟ قال: بلى . قال: فنظر إلى نخلة فقال: ادع ذلك العذق. قال: فدعاه فجاء ينقز حتى قام بين يديه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ارجع فرجع إلى مكانه، فقال العامري: يا آل بني عامر ما رأيت كاليوم رجلا أسحر[10].

المسألة العاشرة: الملَكُ جبريل يواسي النبي الرسول

ومنه حديث جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أبدا إلى أن يقوم الناس لرب العالمين، ولما رآه محزونا مغموما، ما لك يا أخي يا محمد صلى الله عليه وسلم؟ وكان قد رآه مدميا، ينزل منه الدم! وحين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم، أن ذلك؛ ومما فعله أهل الطائف به، ويوم أن ضربوا هذا النبي محمدا صلى الله عليه وسلم.

وإذ يحسبون أنه؛ ومن ضربهم إياه، وأنه سوف يتوب، ويقلع، وينخلع، من الرسالة التي قد حمل أعباءها من الله تعالى.

زاد الدعوة والدعاة: وهذه رسالة إلى الدعاة؛ للاطمئنان، وإلى أن الحرب القائمة على الدعاة، ويكأنها زاد للدعوة وللدعاة!

والحق، وأنه، ولو علم أهل هذه الحرب الشعواء على الدعوات والدعاة، وإن هذا لوقود الدعوة والدعاة، وقناديل الخير والهدى والثبات للدعاة، ولربما ما فعلوه!

هما حسنيان وبأيهما ظفرت فقد فزت: والحق أن هاهنا أصلا. وإذ إنك أنت لتتكلم في مسألة محسومة سلفا، ولما كان الأمر، ومن جهة الشهادة، وحين طلبوها المسلمون، أو من ناحية النصر، وحين كان مرادهم، وكلا الأمرين هما الحسنيان اللذان قال الله تعالى عنهما ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: 52].

وهذه سنة من قد سلف، مذهبا وسبيلا لمن خلف.

الحاصل أن هذه المسألة قائمة، ما قامت الدنيا، ومن ابتلاءاتها، التي يتولد عنها سنة الصبر، والثبات، والاحتساب.

وأن ما يصيب أحدنا، ومن ذلكم الغم، أو الحزن، فذلكم مقتضى، من مقتضيات النفس البشرية، ولكنه سرعان ما يفيق على ما دل عليه قوله تعالى ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1-3]. بل هو المفلح؛ ولما كان من شأنه هذا؛ ومن دلالة سورة العصر!

وإنها لسنة التمحيص والتي أخبرنا ربنا تعالى عنها، ومن قوله تعالى ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 140 و 141].

﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]: وإن ما يصيب البشرية من لأوائها، وتعبها، ونصبها، وشقائها، وعذابها، وفقرها، ومرضها، وأوجاعها، وما قد ألمت بها من مصائب، شرقها، وغربها، وشمالها، وجنوبها، وأمامها، وخلفها، وتحتها، وفوقها، ولعل هذا مما يقع من حرب على الدعوة، والدعاة.

الحاصل أن الملك جبريل عليه السلام، وحين راح إلى نبينا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وحين عرض عليه أن يأتيه بآية، ولما كان منها أن يطمئن قلبا، وأن يخلد نفسا، وأن ينشرح صدرا.

ومنه هذه الآيات، هو هذا العالم كله، الذي تراه هائلا، مضطربا، مائجا، هائجا، ثائرا، وعلى غير سنا!

وإذ ها هنا احتلال، وإذ ها هنا اضطراب، وإذ هنا فيضان، ولما كان هنالك براكين، وإذ هلاهانا زلازل، وإذ هنالك حروب طاحنة، وأزمات مزمنة!

ولكن الناس؛ ومن موجب الذي أنف، وإنما هم بحاجة، إلى هكذا يقظة، ورجعة، وتوبة، وأوبة!

ولعل ما قد أصابهم ذلك؛ ومن بعدهم، ومن فرارهم، من الحق، والهدى، وقد نصب بين أيديهم! ووضع على طبق من ورد وزهر! ولما كان منه هو هذا قول ربنا الرحمن سبحانه ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].

 وإذ ولما كان حال الناس ويكأنهم مخاطبون، ومن كونهم يبحثون عن أسباب عسرهم، وربنا قد أهداهم يسرهم، وهو هذا القرآن، وهو هذا سنة النبي المصطفى العدنان.

﴿كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [ الفرقان: 32]: وهذا الذي نؤكده، وحين نسوقه، غير مرة، ومن فعل تضافر الآيات البينات، ومن أثرها في تثبيت قلوب المؤمنين، وفضلا عن خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

 ولما كان من أثرها هذا، وهو أنها سبب ومن راحة، وموجب من انبساط، وتذهب هما، وتزيح غما، وتدفع حزنا، وتجلي كربا.

وهذا الذي نقوله أيضا، ومن أن الداعية أبدا، في حاجة إلى أن يتقلب في قراءة سير الصالحين، والنبيين والمرسلين؛ ليزداد إيمانه، ويثبت يقينه، ويصقل لبه، ويهدأ قلبه.

ومنه هذا الذي فعله الملك جبريل عليه السلام، مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وحين نادى جبريل على شجرة! فأتت! وحين أمرها أن ترجع، فرجعت، وبأمر ربها تعالى، ومن سبب هذا الملك المبارك جبريل عليه السلام!

 ومنه؛ فثبت للنبي فؤاده، واستقر له يقينه، وزاد به أمنه، ورغده!

وإذ نحن أيضا، وإنما نتقلب بين آيات الله تترى! من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، ومن فوقنا، ومن تحتنا، ومن كل صوب، وحدب.

ولما كان منه عندنا موجبه، لهكذا الثبات، والتقوى، والرضا، بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.

فعن أنس بن مالك: جاء جبريل عليه السلام ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء قد ضربه بعض أهل مكة فقال ما لك قال فعل بي هؤلاء وفعلوا قال أتحب أن أريك آية قال نعم أرني فنظر إلى شجرة من وراء الوادي قال ادع تلك الشجرة فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه قال قل لها فلترجع فقال لها فرجعت حتى عادت إلى مكانها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبي[11].

 [1][حلية الأولياء، أبو نعيم: 1/ 53].

[2][أخرجه البخاري: 5355].

[3][صحيح البخاري: 2374].

[4][صحيح الترغيب، الألباني: 1690].

[5][صحيح البخاري: 207].

[6][الإلزامات والتتبع، الوادعي: 66].خلاصة حكم المحدث : على شرط الشيخين. التخريج : أخرجه أحمد (17612) واللفظ له، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (5/366).

[7][مختصر الشمائل الألباني : 143]. خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[8][مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، الهيثمي: 14108].

[9][المستدرك على الصحيحين، الحاكم: 4289]. خلاصة حكم المحدث : صحيح على شرط مسلم. [صحيح الترمذي، الألباني: 3628]. خلاصة حكم المحدث: صحيح دون قوله فأسلم الأعرابي.

[10][صحيح دلائل النبوة، الوادعي: 213].

[11][صحيح ابن ماجه، الألباني: 3270].