من المصطلحات البارزة في سياق التبشيع والتشنيع ما يرمى به كثير من الفقهاء بـ (الفقه المتشدد)، والمتأمل في المصطلح ينبغي له أن يتخذ من المتن اللغوي للمصطلح وسيلة تساعده في إيقاع الوصف على الموصوف إيقاعًا يأخذ بأطراف الموصوف ويجمعها تحته.

بيد أنَّ مصطلح (الفقه المتشدد) يعد في نظري أنموذجا لفوضى التناقض الفكري في الخطاب الإنساني، وهذه الفوضى تدفعها نوازع النفس، واختيارات الهوى أكثر من تلك الدوافع المبنية على منهج علمي في البحث والوصف والمساءلة.

وهذه النوازع النفسية إذا التبست بالمصطلحات اللغوية صارت لذيذة، مغرية، مدهشة للقلوب، تطيش بالعقول حتى تطرح بها أرضًا، وتفت في صحة العقول حتى يكون العيب للقول الصحيح سمة من سمات الفهوم السقيمة التي التبس عليها نوازع النفس ودوافع العقل.

عرف الناس منذ ظهور كلمة (فقه) أنها تمثل إدراك الشيء والعلم به كما ورد في المعاجم اللغوية، ثم انتقل هذا المصطلح إلى علماء الحلال والحرام في الشريعة الإسلامية، والمهم هنا أنَّ كلمة (فقه) وصف لتلك الطريقة العقلية في استنباط الأحكام، والتفريق بين صحيح الأشياء وسقيمها، والتمييز بين ضارها ونافعها، وكل ذلك يعني أننا نتحدث في عملٍ عقلي تغلغل في دقائق الأشياء ليراها بطريقة تخفى على من لم يدرب عقله على مصاحبة الأشياء والأفكار حتى يدرك حقائقها.

ثم إنَّ الفقه عمل عقلي يروم كشف الحقيقة للنفس والناس متأثرًا بنوازع الخير التي تدل على ثمرة الاجتهاد في العمل العقلي مع النصوص والظواهر، ومن خلال الفقه بها يكتسب الحديث المبني على فقه أصالة في الحق، وسلامة من الزلل، واجتهادًا في النفع، وعمقًا في الربط بين الدليل والتعليل.

أما كلمة (المتشدد) فيظن القارئ لها أنها متمحضة للتشنيع والتبشيع وهذا ما لا تقبله السياقات الخطابية التي وردت فيها كلمة (المتشدد) أو مشتقاتها.

فنحن نطالع في المعاجم أن الشين والدال تدل على قوة في الشيء وبذا يكون مصطلح (الفقه المتشدد) مدحًا لا مرية فيه، وثناء عاطرًا ممن رام وصف الفقه بما ينفر النفس عنه.

وكل مشتقات (شد) تأخذ من الدلالة المحورية ذلك الأصل المهم وهو القوة.

ولكنَّ هذه القوة قد توصف بها الحرب فيقال: حرب شديدة، أي: قوية، ومن آثار قوتها كثرة الهلاك، والدمار، ولم يكن الدمار والهلاك معنى من معاني (الشدة) بل هو أثر من آثارها، يشاهده الناس، ويعرفه العقلاء.

ويقول طرفة في إحدى لحظات التأمل النفسي:

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الباخل المتشدد

فوصف الرجل البخيل بالمتشدد أي: القوي في إمساك المال، والشح في بذله، ولكنَّ هذا الإمساك والشح لم يأت من كلمة (المتشدد) بل جاء من كلمة (الباخل) لأن الإمساك والشح من النوازع النفسية عند البخيل، فأراد طرفة المبالغة في بيان قوة الموت وأنه لا يترك شيئا يقف في وجهه، بل إن تشدد البخيل وحرصه على ماله لا ينفعه، ولا تساوي قوته قوة الموت، وبذلك يظهر أنَّ الفقه المتشدد لا يغادر منطقة القوة، وأن التبشيع والتشنيع لا يلتئمان مع الفقه المتشدد.

ويأخذ بعض الناس معنى التشدد إلى نوع من التزمّت، والتنطع في اختيار الأشياء، وهذا باب مغاير للفقه المتشدد؛ إذ الفقه المتشدد قوة في إعمال العقل عند لحظات الاستنباط، أما التنطع والتزمت فاختيار النفس لعلة ارتضتها، وهذه العلة نشأت عن نظر الإنسان لنفسه، ومن ذلك ما ورد من أن ثلاثة نَفَر سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا بها (كأنهم تقالّوها) ثم قالوا معللين لأنفسهم ما اختاروه من عمل بأن النبي صلى الله عليه وسلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا إلزام للنفس بما لم يأمر أو يرغّب به الشارع الحكيم، بل إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل عملهم(رغبة عن سنته) وقال: فمن رغب عن سنتي فليس مني.

وفي موضع آخر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهلاك المتنطعين، والمتنطع هو: المتعمّق الغالي المتجاوز للحد في قول أو فعل. وهذا الوصف لا يتماشى مع الفقه الذي ينبني على منهج علمي عقلي في النظر والاستنباط، ويقوده في ذلك أن الفقه يروم وضع العمل الإنساني في إطار شرعي لا يُفْرِط في الواجبات الشرعية، ولا يفرِّط في الحقوق الإنسانية، أما التنطع فيقوده الجهل بمقاصد الشارع، والجهل بالقدرة البشرية، ولذلك لا يمكن أن يوصف الفقه بالتنطع لأنّ الفقه علمٌ، والتنطع جهل، ولأنّ من أراد تبشيع (الفقه) يكون بين حالين: إما جاهل بحدود المصطلحات، وغير مدرك لحقائق الأمور، أو هو هارب من استعمال المصطلحات اللغوية التي استعملتها الشريعة الإسلامية؛ لأنها تخالف نوازع النفس التي تروم تبشيع الفقه وتشنيع صورته في الأذهان.

وبالعودة إلى مصطلح (شد) نجد أن الشدة استعملت في بيان النبل الإنساني لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهم (أشداء على الكفار رحماء بينهم) شدة مع العدو، وقوة في التصرف والتفكير والفعل مع رحمة وعطف في استيفاء الحقوق، وتوجيه المخطئ، والنصيحة لكل مسلم.

وبعد هذا يمكن أن ننظر لمصطلح الفقه بلا إضافة؛ لأن الإضافة إذا كانت بلفظ (التشدد) فهي ثناء، وبيان حقيقة الكمال في النظر للنصوص والظواهر.

والفقه مصطلح كلي يقع كله على المشتغل به أو يخرج عنه إذا لم يستوف شروط النظر المعتبرة في الفقه بالأشياء، وهو ثناء على كل من تجرد وأعمل منهجًا عقليًا صريحًا في التعامل مع النصوص والظواهر، واكتشف حقيقة الروابط بين الأحكام، وعلاقات التواشج بين الظواهر.

إنَّ مصطلح (الفقه المتشدد) مثل قول الأخطل:

وَسَوَّدَ حاتِماً أَن لَيسَ فيها 

 إِذا ما توقَدُ النيرانُ نارُ