من المشكلات العويصة والظواهر الاجتماعية  السامة ؛ ظاهرة تشبث المرء برأيه دائما وابدا , واعتقاده بأنه محور الحياة و( داينمو) الحركة الدينية والحراك السياسي , وقطب الرحى , و وحيد عصره و فريد دهره , وفلتة زمانه ... الخ  ؛ وعدم تقبله لآراء الاخرين , او السماع منهم والتشاور معهم , والانفراد باتخاذ القرارات واتصافه بالنزعة الانفصالية والتمرد . 

والاستبداد بالرأي , وعدم أخذ النصيحة والعمل بالمشورة , يؤدي الى هلاك المستبد لا محالة ؛ ولعل حديث الامام علي يشير الى هذا المعنى , اذ قال : ((   من استبد برأيه هلك )) وليته يهلك بمفرده , لاستراح وأراح ؛ وانما البلاء يكمن في اهلاك الاخرين معه , وذلك لان المجتمع عبارة عن مجموعة أشخاص وجماعات  يعيشون في منطقة ما ، ويشكّلون معًا وحدة واحدة، وتجمعهم : الاهتمامات المشتركة ، أو الصفات الاجتماعية، أو أي خصائص أخرى ... الخ ؛ لذا تؤكد التجارب التاريخية لسيرورة المجتمعات ؛ أنه كلما كان المجتمع أكثر انسجاما وترابطا كلما كانت الدولة أكثر استقراراً، وأن وحدة المجتمع أهم من الوحدة السياسية ... ؛ ومن هنا تعرف اهمية فحوى الحديث المنسوب للنبي محمد وتشيخصه المبكر لهذه الظاهرة  : ((مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا   كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا    )) .

ومن الواضح ان المقصود بالقائم ؛ الحاكم الشرعي , فأن ترك الحاكم الشرعي ؛ العُصاة وهم خُرَّاق السفينة هلك وهلكوا جميعا ،  وان منعهم من خرقها نجا ونجوا جميعا ... ؛ ومن هنا نعرف ان  خطر التحديات الداخلية التي تعمل على ارباك المجتمع وتشتيت الجماعة وتفريق الامة ومن ثم تعميم التشرذم والانقسامات على كافة الاصعدة والمجالات والمستويات  ؛ فهي تهدد تماسك المجتمع و وحدته وسلامته ... ؛   لا يقل خطرا  عن التحديات الخارجية وعما تبذله الدول الاجنبية والمخابرات المعادية في استهداف العراق وقضاياه الخارجية وتعريض امنه الوطني وحدوده للغزو والاحتلال او الاعتداءات العسكرية او العمليات الارهابية ؛ اذ لولا الضعف الداخلي لما تمكن العدو الخارجي من الاعتداء على الوطن ومصالحه   

والمجتمع القوي والدولة المتحضرة ؛ يتمتع ابناءها بعلاقات صحية , حيث تسعى كافة الاطراف فيها لإسعاد بعضها البعض , والتعاون فيما بينها على انجاز المهام الوطنية والانسانية , وحل المشكلات والنزاعات بالحوار والاحتكام للقانون ... ؛ و يعطي فيها كل شخص الآخر حرية التعبير عن رأيه، ويساند كل منهما الآخر في اتخاذ القرارات ودعمها، دون لوم أو إشعار بالذنب أو التقصير،  او تشبث بالرأي او محاولة فرضه على الاخرين بالقسر والاكراه ... الخ . 

ويمكن القول إن المجتمع القوي والديمقراطي ؛ هو ذلك المجتمع الذي يعيش فيه المواطن على طبيعته دون خوف او قلق او اكراه ؛ واما المجتمع المريض والمأزوم ؛ فهو الذي يشعر فيه احد الطرفين او كلاهما بالتهديد المستمر والقلق , والخوف من سيطرة الاخر وفرضه لآرائه على الجميع وبالقوة والقسر ؛ كما هو حال المجتمع الافغاني مع حركة طالبان المتخلفة الارهابية .  

وقد ابتلى الله العراق ؛ بأفراد من الذين يتشبثون بآرائهم دون الحياد عن تغييرها في النقاشات والمحاورات , لشعورهم الدائم بأنهم على صواب مطلق ، فهم يعتقدون ان الحق معهم يدور حيث داروا , والنتيجة الطبيعة لأخلاق وسمات هؤلاء في الواقع الخارجي واثناء تعاملهم مع الاخرين ؛ رفضهم التام لآراء الاخرين وعدم احترامهم , او الاستماع للأصوات المعارضة والمختلفة ... ؛  لذا يصعب التعامل معهم ، ويصعب إقناعهم  والوصول معهم لنقطة مشتركة، وهذه الصعوبة تتحول إلى مشكلة لمن يتحاور معهم، ولمن يتواصل ويستمع اليهم ...؛ ولعل هذه المشكلة العويصة والظاهرة الخطيرة هي التي دفعت النبي محمد لوصية اصحابه بالانسحاب من هذه الاجواء الموبوءة , واعتزالها ؛ لان الحوار فيها يوصل الى طرق مسدودة , وهو اشبه بحوار الطرشان ؛ اذ قال : ((  ذا رأيتَ شُحّاً مُطاعاً، وهوىً متبَعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فدع عنك أمرَ العامة، وعليكَ بخاصة نفسك   ))  .

وقد عرف العقلاء والمواطنون اهمية وجود الحكومة وضرورة احترام  رأي الجماعة المجتمعية في حياة الافراد والجماعات , لذا تماهى المواطن مع قرارات الحكومة , وخضعت الجماعات الصغيرة  لرأي الكتلة المجتمعية الكبيرة , فقد تختلف وجهة نظر المرء مع الجماعة وقد تكون الجماعة على خطأ الا ان الحكمة والسياسة احيانا تقتضي من المرء , مسايرة الجماعة والعمل برأيها , لان الامن والمصير مع الجماعة , لذا ورد عن النبي محمد قوله : ((  ... عليكَ بالجماعةِ فإنَّما يأكلُ الذئبُ منَ الغنمِ القاصيةَ  ... )) فقد يكون خطأ الجماعة هو الصحيح , وصواب الفرد هو الخطأ في بعض الاحيان ؛ والشيء بالشيء يذكر , يروى عن احد رجال الدين الايرانيين , انه كان يلقي درس البحث الخارج على طلابه , ومضمون تلك الدروس تفنيد ادلة ولاية الفقيه , والانتصار لأصحاب نظرية الولاية الخاصة , وبعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران ومجيء السيد الخميني ؛ توقف ذلك الفقيه عن الدرس , وبعد مرور اكثر من 15 عاما , عاد من جديد لدرسه القديم , وبدأ بتفنيد ادلة القائلين بولاية الفقيه , وعندما سأله بعض الطلبة عن انقطاعه الاول , وعودته المتأخرة للدرس ؟!

فأجابهم : أن النظام السياسي وقتذاك كان يعتمد على نظرية ولاية الفقيه , وكانت الاوضاع السياسية والامنية حرجة جدا , ودرسي لو استمر لاستفاد منه الاعداء والمخربين في ضرب النظام السياسي  والاخلال بالأمن المجتمعي , اما الان وبعد استقرار النظام وقوة الدولة ؛ فلا ضير ولا ضرر من درسي ... .

نعم قد نذهب كأفراد الى عدم جدوى مجالس المحافظات , ولكن بعد سيرورة الامر الى قانون و واقع ؛ لابد من التعامل معه باعتباره واقع لا فرار منه ؛ وامامنا طريقين لا ثالث لهما في التعامل مع هذا الامر : اما المقاطعة وهي بدورها تؤدي الى نتيجتين لا ثالث لهما ؛ فوز الكتل والشخصيات الفاسدة لمشاركة انصارهم واتباعهم فيها , او غياب المكون (ش) وصعود المكون (س) وهذه النتيجة تؤدي الى تهميش واقصاء المكون (ش) وحرمانه من استحقاقه القانوني والواقعي ... ؛ او المشاركة وهي تنقسم بدورها الى امرين ايضا : الاول المشاركة السلبية وهي مشاركة المرتزقة والمتحزبين والمؤدلجين الذين يصوتون لأحزابهم وشخصياتهم الفاسدة ... ؛ والثاني المشاركة الايجابية والتي تهدف الى تغيير الوجوه الفاسدة واستبدالها بالنزهاء والشرفاء ... ؛ فأن كان ولابد من مجالس المحافظات فلا اقل من انتخاب النزهاء والشرفاء فيها لتقليل الخسائر وجلب المنافع ؛ ولكن هذا لا يعني التسليم للأمر الواقع ؛ فالآخرين المعارضين والرافضين ,  لهم الحق في المطالبة بإلغاء مجالس المحافظات , والتي تم الغاءها سابقا اثر الاحتجاجات الشعبية , ولو كان الامر لي لما عارضت ارادة الشعب والتي تمثلت وقتذاك بالمطالبة بإلغاء مجالس المحافظات ؛ لكن لا امر لمن لا يطاع , و هذا لا يعني انني اقول انها بلا فائدة ؛ وانما اذهب الى تنفيذ مطالب الشعب والاحتكام لصوت الاغلبية , والاغلبية طلبت من الحكومة الغاءها وتم الغاءها , والمفروض ان  لا ترجع الا بقرار شعبي عام , ولعل رأيي هذا يفنده البعض بالقول : ان رجوع تلك المجالس جاء بقرار من البرلمان وهو الذي يمثل ارادة الشعب ايضا  . 

وعليه عندما ندعو للمشاركة , فأننا  نقصد من وراء ذلك حفظ استحقاق المكون الاكبر ؛  لا لسواد عيون الكتل والاحزاب والاشخاص المرشحين اولا , وثانيا لتغيير الوجوه والمجيء بالشخصيات الكفوءة والنزيهة والوطنية , وثالثا لان المقاطعة لا تجدي نفعا بل تزيد الطين بلة , ويشهد الله اننا ندعو لما نراه صالحا في هذه المرحلة , من دون املاءات حزبية او خارجية او انتفاع او ما شاكل ذلك , ويستطيع اي شخص منصف تمييز الكاتب الحر عن غيره ؛ فالحر يمثل صوت ضميره و وجدانه , ويعبر عن هموم وتطلعات الامة العراقية , ولا شأن له بالمزايدات السياسية والاعلامية , فقد اتفق مع (ص) اليوم , ولكني اختلف معه غدا ,وقد اؤيد (س) اليوم الا اني قد اعارضه غدا ,  وقد اخضع لرأي الكتلة السياسية الفلانية في الوقت الحاضر ؛ لأني اره اهون الشر ...  وهكذا .