يبدو أن هناك علاقة خفية بين الحضور والغياب وبين الروح البشرية، فالحضور الدائم يضفي على الأشياء سمة السرمدية وبالتالي امتهانها للاعتياد فتصبح بلا قيمة تقريبا.
والغياب الدائم يُنسي تفاصيل الأشياء، وربما إلى اندثارها تماما من عقولنا.
التوازن بين الحضور والغياب مهم جدا؛ فهو مصدر قيمة الأشياء، وهذه الفلسفة بذات نراها متجسدة في الكثير من الأشياء حولنا، ففصول السنة وتناوبها على الكورة الأرضية، يمنح المرء معنى التغيير والإستمرار، تخيل معي لو أن الحياة كانت صيفا دائما؟ أو خريفا مستمرا؟
كذلك محاولات النساء الحفاظ على جمال دائم، منطق ترفضه النفس البشرية، ويرفضه مبدأ عدم الخلود الذي يقف على رأسه كل العالم بما فيه من مخلوقات.
سعي الإنسان خلف الخلود ولو بالتمني أمر قد يبدو طبعيًا إلى حد ما، ولكن عندما يتحول الأمر إلى سباق محموم بلا قواعد و قوانين ،هنا تبدأ البشرية بالانحراف عن كل ما هو جميل.
وحرفيا تبدأ مشاكل البشرية عندما يتدخل الإنسان في شؤون الإله، ناسيا أو متناسيا عدم قدرته على تغيير ناموس الكون فينتهي به الأمر إلى إفساد الأمور، وقلبها رأسا على عقب، مخرجا للعلن من باطن الأرض مشاكل جديدة، وفي كل مرة يسعى فيها لحلها يخلق مشاكل إضافية.
حقيقة لا أدري من أين جاء الناس بكل هذا التعقيد، فأصل الحياة البساطة الثنائية لو جاز التعبير، ذكرا وأنثى، حق وباطل، خير وشر، جمال وقبح، قرب وبعد، موت وحياة، لما كل ذلك التمييع للمفاهيم وفوضى تحديد المعنى الحاصل الآن؟
فكل محاولات الإنسان لتحويل البشر لأشكال تبدو أجمل مما هم عليه، هم حقيقة يتعدون على قيم الجمال ومعناها. فالجمال هو: "صفة تُلحظ في الأشياء، وتبعث في النفس سرورا ورضا". لا أدري أين الجمال الذي يُسوّق له من خلال عمليات التجميل؟
فما هو الجمال في زيادة حجم الشفاه بحيث يصعب على صاحبتها ضمهن أو التحدث بطريقة لا تبدو فيه أنها تعاني من إعاقة ما. نحن لسنا ضد طب التجميل كليا ولكن عندما يكون الأمر يحتاج لذلك فلا بأس، أما أن يتحول إلى تجارة وتشويه لمعنى الجمال فهذا والله عبث وتجنّي على الحقيقة.
نعود لفصول السنة، حيث خص الله لكل فصل فاكهة وأطعمة تميزه عن بقية الفصول وتخلق فيه جوا تتعلق به الأنفس حتى تدخل الإنسان ليجعل كل الأطعمة متوفرة طيلة أيام السنة، فقدت النباتات رائحتها التي كانت تعبق بها المنازل والشوارع والمحال مضفية على الدنيا جمال الحضور بعد الغياب.
ولم يكتف الإنسان بهذا بل أخذته نفسه لأبعد من ذلك بكثير، فأوحت له بالتلاعب بتلك النباتات جينيا.
الهدف المعلن هو تغيير بعض صفاتها من أجل حماية الإنسان من المجاعة وزيادة إمكانية تكيف النباتات مع ظروف قاسية، ولكن يبقى السؤال أي إنسان؟
كل من له قدمان ولسان وشفتان بغض النظر عن الرقعة التي ينتمي لها، أما الإنسان الآري وحسب؟
فمثلا القمح خلقه الله بمعدل غلوتين مناسبا للإنسان دون أي تأثيرات جانبية، لكن بعد عبث البشر به جينيا أصبح مصدر للكثير من الأمراض بسبب زيادة نسبة الجلوتين به. الذي يؤدي إلى إطلاق أجسام مضادة تؤثر سلبا على الأمعاء، مما يؤدي إلى حدوث مجموعة من الاضطرابات الهضمية.
مهلا... لم يقف عبث الإنسان إلى هذا الحد بل تجاوزه حتى وصل للمجموعة التي يعيش وسطها، والنوع الذي ينتمي إليه. فكنا نقسم النوع الإنساني إلى ذكر وأنثى، صحيح وعليل، أما الآن قد تصفعك فتاة لأنك عاملتها بصفة أنثوية وتخبرك بأنها رجل.
وقد يجلسن فتيات بجوار بعضهن مثل حبات عقد جميل، ليفسد ذلك المشهد متحولا بملامح مريبة، وشكل ناشز يُسيء لعيني الناظر. تغيرات مجنونة جعلتنا نحتاج وقتا حتى نستطيع تحديد جنس الشخص الماثل أمامنا.
ولو أن هذا التحول يعود ضرره على المرء لوحده لخفّ ثقل المصيبة، لكن أن تلقي بضلالها القاتمة على تكوين الأسرة، وخلق أسر مشوهة من ذكور فقط أو إناث فقط بدعوى الحرية فهذا أصل البلاء وخيبة لم تسبقها خيبة في حجمها وتأثيرها وويلاتها.
لا يمكننا تجاهل تركيبة الإنسان من العقل والروح والفطرة وما لها من مقتضيات، ولا يمكننا أيضا إنكار لذة التغيير والتطور ولكن...
يجب علينا وضع حد للتمادي، مقياسا نقيس عليه الأمور، إنقاذ الأخلاق التي جعلوها نسبية وتميل حيث تميل مصالحهم. نسمح للعالم أن يسير لكن يجب علينا إيقاف تدخل البشر في شؤون الإله.