حين فازت السعودية بكأس آسيا عام 1984 كان عمري ستة أشهر ونصف بالتمام والكمال. جمعت المباراة النهائية السعودية والصين، وتغلبت السعودية بهدفين سجلهما شايع النفيسة وماجد عبد الله، في مباراة جرت في أجواء ماطرة في عاصمة سانغفورة. كانت تلك المرة الأولى التي تحقق فيها المملكة إنجازا في كرة القدم؛ لذلك يتذكر عشاق كرة القدم في السعودية هذا التاريخ دوما بحنين خاص، وأعتقد أن صوت علي داود وهو يهتف: «ماجد عبد الله كسر الطقم الصيني كله» لا يزال يتردد صداه في الآذان. بعدها بأربعة أعوام حققت المملكة كأس آسيا للمرة الثانية على التوالي، حيث أقيمت النهائيات في قطر، وجاء الفوز على حساب كوريا الجنوبية بضربات الترجيح. صورة الكرة وهي تتهادى ببطء إلى المرمى إثر تسديدة فهد الهريفي الأخيرة لا تزال عالقة في ذاكرتي رغم مرور السنين.
ما سبق، كان استعادة لذكريات شخصية وليس قراءة في كتب التاريخ. وعيت على سحر كرة القدم باكرا لأن أبي كان عاشقا كبيرا لكرة القدم، وذكرياتي الآنف ذكرها كان أساسها شريط فيديو كان والدي يحتفظ فيه بتسجيل للمباراتين التاريخيتين. شاهدت ذلك الشريط مرارا وتكرار، شاهدته مئات المرات. وفي كل مرة كنت أشعر بلذة الانتصار نفسها، وفي كل مرة كنت أطرب على صوت عبادي الجوهر وهو يغني «جاكم الإعصار ما شي يعيقه...». لم يورثني أبي كثيرا من صفاته، لكنني ورثت عنه حب كرة القدم بكل تأكيد. كانت إحدى أمتع الأوقات تلك التي أقضيها إلى جانبه وهو يروي لي قصص الانتصارات للمنتخب، وكيف كان هو وأصدقائه يقطعون مسافة 170 كلم من الأحساء إلى الدمام على ظهر دراجة نارية مهترئة لحضور المباريات. لم يكن والدي قلقا لشغف ابنه المتزايد باللعبة الشعبية الأولى في العالم، لكن خوف الأب في قلبه لم يسمح لي بممارسة مغامرات شبيهة بتلك التي قام بها أيام شبابه.
لكرة القدم بعد اجتماعي لا يحتاج معه الملاحظ جهدا كبيرا لرؤيته؛ أكان ذلك في أطفال الأحياء الفقيرة الذين يجتمعون كل يوم للعب في الحواري والشوارع، أو في مناسبة عالمية كبرى يصرف عليها، وينتج عنها، بلايين الدولارات مثل كأس العالم. ورغم أني لم أمارس كرة القدم كثيرا أثناء طفولتي بسبب اعتلال صحي لم يكتشفه الأطباء إلا متأخرا، لكن مجرد عشق اللعبة كان كافيا ليضمن لي التواصل مع الآخرين فقد كنت طفلا عنيدا، بيد أن كرة القدم كانت إحدى الأمور القليلة التي لا أعمل عنادي فيها. الطريقة التي توحد بها الكرة الناس هي مثار اهتمام العديد من المراقبين، فكيف يمكن لمن تفرقهم الأجناس والأعراق والأديان أن يتوحدوا خلف أحد عشر رجلا يركلون الكرة؟ إنه سحر كرة القدم بلا شك. المملكة لا تمتلك مناعة ضد هذا السحر، والسعوديون الذين يأتون من بلاد مترامية الأطراف، من أصول مختلفة وتوجهات متنوعة، كلهم توحدا لمساندة منتخبهم الذي شارك في كأس العالم التي جرت في ألمانيا مؤخرا، في مشاركة هي الرابعة من نوعها في تاريخه.
لا شك أن هذه الوحدة تتأثر بالانتماءات التي يرتبط بها السعوديون، ومع مرور الزمن، تكون عندي إحساس بأن السعوديين يقدمون انتماءهم الديني على انتماءهم الوطني. لا غرابة في ذلك، خصوصا في بلد لطالما تغنى أهلها بأنها بلاد الحرمين، وبأن ذلك يمنحهم أفضلية - أراها وهمية - على حساب بقية المسلمين. قبل ثلاثة أعوام، ضرب الإرهاب قلب الرياض، فتغيرت الكثير من الأمور. أحد المتغيرات كان الصعود الملحوظ للروح الوطنية لدى السعوديين، وذلك أيضا مفهوم كرد فعل طبيعي على الخطر الذي يتهدد الوطن، ولأن الإرهابيين حين قاموا بجريمتهم كانوا يدعون حمل لواء الدين والدفاع عنه. أعتقد أن صعود الروح الوطنية لدى السعوديين، بغض النظر عن سببه المذكور آنفا، هو شيء إيجابي، لكنني أيضا لا أحبذ أن تطغى هذه الروح عن الحد المعقول لأن طغيانها قد يقودنا إلى التعامي عن الواقع، وهو أمر بغيض وغير محمود العواقب.
هل يمكن ربط هذا الصعود في الروح الوطنية بذلك الاصطفاف الكبير حول المنتخب أثناء رحلته للصعود إلى كأس العالم؟ بعد الخروج المذل للمنتخب من الدور الأول لكأس العالم 2002 بدا أن الكثيرين قد فقدوا الأمل في المنتخب، خصوصا أن نتائج المنتخب في كأس آسيا 2004 ثم دورة الخليج التي أقيمت في قطر لم تكن مشجعة على الإطلاق. مع هذا، استطاع المنتخب تجاوز المباريات الأولى في تصفيات كأس العالم 2006 بنجاح، وما بدا حلما صعب التحقيق بعد الخروج المذل بات أقرب إلى الواقع. تبقت مبارتان للمنتخب في التصفيات: أمام الكويت ثم أوزبكستان، وخلال الأيام القليلة التي سبقت المباراتين تصاعد الحماس الوطني عند الناس إلى درجة غير مسبوقة. هذا الحماس تمكن من حشد ما يزيد على 140,000 متفرج تابعوا المباراتين في مدرجات استاد الملك فهد الدولي: تجمع يندر مشاهدته في هذا البلد حيث تمنع المظاهرات حتى السلمية والمؤيدة منها.
أعتقد أن هذا التوحد خلف المنتخب هو السبب أيضا في تحول كثير من الأغنيات التي تم إعدادها لمساندة المنتخب إلى أغنيات وطنية أكثر منها رياضية؛ فأغنيات مثل «يا سلامي عليكم يالسعودية» لراشد الماجد قد سكنت في وجدان الناس حتى من غير المهتمين بكرة القدم، وأعتقد أن أغنية راشد الفارس الأخيرة «عاشت بلادي» هي أيضا مرشحة للانضمام إلى هذا النوع من الأغنيات، خصوصا وهي تتضمن عبارات من نوع: «وحدة كلمتنا.. وهي عز قوتنا.. نجد وتهامة.. أهل الشهامة.. عاشت بلادي.. يحق لي أفخر بك يا أغلى الأوطان.. نورك عم الدنيا من قديم الزمان.. قبلة أمتنا أنتي يا عزة للإنسان.. من لامني في حبك يا بلادي غلطان.. عاشت بلادي». إن هذه الروح الوطنية المتمثلة في الوقوف خلف المنتخب هي ليست وطنية زائفة، لأنها ناتجة عن شغف حقيقي: كنت أعرف ذلك دوما، لكنني تأكدت منه حين رأيت إخوتي الصغار يتحلقون حولي لمشاهدة مباراة المملكة ضد تونس، ومن الطريقة التي كانت أمي تسألني بها عن نتيجة المباراة.
أغسطس 2006