تبقى الحقيقة وليدة الجهد الفردي والبحث الشخصي والتفكير الذاتي ؛ حتى النظريات العلمية والمسلمات الرياضية والبديهيات العقلية ؛ كانت وليدة جهود شخصية ونتائج لأبحاث عباقرة وعلماء  ؛ لذا قيل ان الحضارات تقوم على مجموعة من العباقرة والكفاءات ؛ ولولا النزعة الفردانية والسمة الشخصانية التي يتميز بها احرار بني البشر ؛ لما تطورت البشرية وتقدمت عجلة الحضارة الانسانية ؛ اذ ان اغلبية البشر تخشى معارضة المشهورات او نقد النظريات والمسلمات الا هؤلاء العباقرة الاحرار ؛ فهم يشيدون نظرياتهم الجديدة على انقاض النظريات القديمة ... ؛ ولسان حالهم يقول : رب مشهور لا اصل له , ورب رأي لا صحة له , والشك بداية المعرفة , والنقد واستخدام الخيال  بداية الابداع والتغيير والاختراع  . 

ومن هنا تعرف سبب ذم كتاب القران الكريم وكذلك الروايات الاسلامية لأولئك الذين يتبعون الاخرين اتباع الاعمى للبصير , ويعطلون العقل عن اداء دوره في اكتشاف الحق والحقيقة ؛ ولهذا سبب اوجب الاسلام على المسلمين الاعتقاد بالتوحيد عن طريق البحث العقلي والعلمي الشخصي وليس تقليدا واتباعا لأقوال الاخرين . 

ولعل من اهم الفوارق  الديموغرافية و السوسيولوجية والسيكولوجية والسياسية بين الشعوب الحية وغيرها , وبين المجتمعات المتطورة والمتمدنة والمستقرة وبين الدول و المناطق  المتخلفة  والمأزومة والمضطربة ؛ أن الاولى تؤمن بالحريات العامة والخاصة وتعدد الآراء واختلاف الافكار والرؤى , وتبقي الأبواب مفتوحة لكل الاحتمالات والنظريات والسيناريوهات , لذا نراها تعرض كل موسم ( موديل ) موضة جديدة لا تختص بالثياب فقط بل ( موديلات ) تشمل اغلب مجالات الحياة , وتعتقد بالحوار الهادف والنقاش العلمي الموضوعي والمساعي الحميدة طريقا لإدارة الامور وحل المشاكل ؛ لذا اضحت تلك المجتمعات بيئات امنة لمختلف اصناف واشكال البشر ؛ بينما تتصف الثانية بالدوغمائية والطوباوية والبرجماتية الشخصية والفئوية الضيقة ؛ وتميل لاستخدام العنف والقوة , وتؤمن بالدكتاتورية والتسلط , وتتسم بالتعصب والغلو والمبالغة والجمود والتقوقع على الذات وضيق الافق , والركود والكسل الفكري وقلة الانتاج المعرفي والعلمي , والانشغال بسفاسف الامور وتوافه الاشياء و الجري خلف الشهوات والملذات فقط ,  وتتخلق بالكذب والنفاق والرياء والادعاء والتدليس والدجل وعدم احترام الوقت والجهد والعمل وتقديس كل شيء الا الانسان .

لذا تشاهد ان  النقاشات في تلك المجتمعات المريضة ؛ اشبه بالجدال البيزنطي الذي لا يخرج منه المرء بشيء ؛ ودائرة المسموح به ضيقة جدا وتكاد تكون منحصرة بالميتافيزيقا او التسبيح بحمد الحاكم والتمجيد بنظامه , او الثرثرة بالتفاهات والخزعبلات والخرافات , والنتيجة الحتمية لهذه المقدمات والارهاصات والازمات استمرارية انتاج النسخ المكررة والشخصيات والعقائد والنظريات المتشابهة ؛ فالمعرفة والثقافة في تلك المجتمعات تدويرية ؛ المعلومات هي نفسها تكرر وتعاد كرة بعد اخرى , بصورة روتينية مملة , الا انها قد تأتي بأشكال وصيغ والوان مختلفة تبعا لاختلاف الزمان والمكان والظروف الا ان الجوهر هو هو . 

ومن يخرج من دوامة هذه الافكار السوداوية والرؤى المتكلسة والعقائد المتحجرة والشعارات السمجة والبرامج الفاشلة والمقدسات المزيفة  في تلك المجتمعات الخانقة ؛ يواجه امرين لا ثالث لهما : القتل والسجن او الهجرة والاختفاء ؛ ومن هنا تعرف سبب هجرة العقول والكفاءات والمبدعين والمختصين من هذه الدول البائسة والهروب الى الدول الاخرى ... ؛ بل وصل الامر ببعض المجتمعات ان تمنع ابناءها من محاولة تجديد تلك المنظومات الثقافية البالية والدينية العتيقة ؛ فحتى العمل والتجديد والابداع  داخل الدائرة العتيقة غير مسموح به ...!! .

وهذا الجمود , والانكفاء على المعلومات البسيطة والقشرية والهلامية , ومحاولة فرضها على الخارج , كواقع حياة ينبغي على الجميع الالتزام به , وان تقاطع مع رؤى عقلاء الكرة الارضية قاطبة , او تعارض مع مخرجات ومعطيات الحضارة الانسانية المعاصرة , اسفر عن اصابة هذه الجماعات المؤدلجة والمؤمنة بهذه العقائد والرؤى والافكار ؛ بالانفصام والنفاق والاغتراب والشعور بالذنب , لأنها تؤمن بما لا تستطيع تطبيقه على ارض الواقع , وتقول ما لا تفعل , وتظهر خلاف ما تبطن .

لذا اعتبرت بعض الدراسات النفسية والاجتماعية بان حالة او ظاهرة الاغتراب  مقياسا للسلامة النفسية للشعوب ، فكلما ازداد الاغتراب زادت الأمراض النفسية لدى تلك الشعوب، وزاد التخلف والعنف  والصراع بالطبع ... ؛ ومما تقدم تعرف سبب تحذيري الدائم والمستمر من الفئة الهجينة والغرباء والدخلاء في العراق , والعمل على عدم تجنيس الاجانب بل واسقاط كافة عمليات التجنيس السابقة , وتسليط الاضواء على جرائمها واخطاءها ؛ فكل ما اصاب العراق وطوال اكثر من مئة عام , انما هو بسبب الفئة الهجينة والجماعات المغلقة والمنكوسة , وعليه لا يستقر المجتمع العراقي الا بالتخلص مما ذكرناه انفا . 

ومما سبق تعرف سبب ابتعاد الشباب عن بعض العقائد والافكار والجماعات والفئات , لانهم عاشوا الاغتراب , فهم يؤمنون بأفكار معينة ويطبقون غيرها , وعرفوا ان بضاعتهم المعرفية البسيطة وادواتهم الثقافية البدائية لا تتماشى مع روح العصر وتحديات الواقع المعاصر ... ؛ وعلموا ان صراخهم وتصريحاتهم ضد الواقع وارهاصاته والعصر ومعطياتها ومخرجاته , وتمسكهم بالأفكار المتخشبة و النظريات التافهة والرؤى الميتة ؛ لن يجدي نفعا ولا يغير واقعا , ولن يحول الاحوال ويقلب الاوضاع رأسا على عقب , وان تعصبهم لأفكارهم ودفاعهم المستميت عن عقائدهم البالية , ورفضهم المطلق لكل الافكار المخالفة والمعارضة والرؤى الجديدة ؛ لم ينجيهم من رياح التغيير وامواج الفكر والتنوير .

والذين بقوا منهم داخل الشرنقة ولم يخرجوا من عنق الزجاجة , اصيبوا بالانفصام والاضطراب والتكلف والتصنع والرياء والنفاق ومختلف الامراض والعقد الاخرى , واضحت مشاهد رجل الدين المتلون والذي يقول ما لا يفعل , والمصلي الذي يشاهد الافلام الاباحية , والملتزم اخلاقيا الذي يفكر بشتى الافكار المنحرفة ويحلم بأحلام اليقظة بارتكاب اقذر السلوكيات ... الخ ؛ مسألة اعتيادية وظاهرة اجتماعية , والعجيب ان هؤلاء يصبون جام غضبهم على فتاة تنشر صور لها بغير حجاب او تتصرف تصرفا عاطفيا تجاه حبيبها مثلا في المحافل العامة او مواقع التواصل الاجتماعية ؛ اذ يعتبروه خدشًا للحياء وهتكا للعفاف واستهتارا واستخفافا بالقيم والاخلاق   ؛ علنا , بينما هم في السر  , يشاهدون مثل هذه الصورة اضعاف مضاعفة بل ان بعضهم يمارس شتى السلوكيات التي يصفها بالانحراف والشذوذ ...!! 

وهكذا مجتمعات وجماعات لديها استعداد تام للحفاظ على هذه الحالات السلوكية والافكار والرؤى العقائدية والمعتقدات الدينية , ولو عن طريق الانقلابات العسكرية والدكتاتورية , ومن هنا تعرف سبب فشل الديمقراطية او تلكؤها في مثل هكذا بيئات موبوءة ومجتمعات مأزومة , اذ يعتقد هؤلاء ان الاجواء الديمقراطية تسمح لظهور سلوكيات  وانتشار رؤى وافكار تتقاطع مع عقائدهم , ومن الصعب على امثال هؤلاء الايمان بالنظام الديمقراطي والالتزام بالقوانين واحترام الحياة المدنية وتقديس حقوق الانسان والحريات العامة والشخصية .

ويخطئ من يظن ان الحرية والعبودية مختصة بالأجساد او تسخير الافراد فحسب , بل انهما تشملان الافكار والرؤى ايضا ؛ فالإنسان الحر يكره القيود الفكرية والاغلال الثقافية والاصر المجتمعية  ,  بينما نرى العبد يلهث جاهدا للحفاظ على اغلاله وتقديسها وتلمعيها واتباع اسياده وتعطيل قواه العقلية .