لم يكن إنتخاب دونالد ترمب مفاجئا للنخبة الحاكمة الأمريكيه فقط بل تفاجأت أغلب عواصم العالم بهذا الفوز الصاخب لرجل لم يترك مجالا للتحليل المتعارف عليه في مستقبل العلاقات الدوليه بين الشرق والغرب. غالبا تأتي الأحزاب الأمريكيه يمينا ويسارا بمرشح له تاريخ سياسي يستطيع المهتمون من خلال هذا التاريخ قراءة سوابقه في التصويت او قرارته في المناصب اللتي تبوءها ثم دراسة هذه الأمور والخروج بنتيجه تنبؤيه عن ماسيحمله العهد الجديد من توجهات في مختلف القضايا الداخليه والخارجيه.

لا يحمل دونالد ترمب عقيدةً سياسيه متكامله كما فعل سابقيه ولم يعتبر ترمب نفسه جزءا من الحزب الجمهوري إلا مؤخرا حيث كان محسوبا على الطبقه الهوليوديه المحافظه اقتصاديا فقط والمنفتحه اجتماعيا كما عُرف بدعمه ماديا للعديد من مرشحي الحزب الديمقراطي سابقا. فأوباما أتى من مجلس الشيوخ ممثلا لولاية الينوي وبوش الابن كان حاكما لولاية تكساس، أما بيل كلنتون كان حاكما لولاية أركانسس قبل حكمه في التسعينات وبوش الأب كان سياسيا مخضرما شغل منصب نائب الرئيس في فترة رونالد ريغان، ترمب لم يشغل أي منصب حكومي او عسكري سابقا.

المذهل في متابعتي لحديث الرئيس الجديد للعالم الحر –كما يحلو للأمريكيين تسمية رئيسهم- في السنوات السابقه لدخوله عالم السياسه بشكل رسمي منذ الثمانينات هو تكرار نبرته الشعبويه اللتي ترى العولمه سباقا نحو المركز الأول ومن الفائز ومن الخاسر بدلا عن رؤيه شموليه تبحث في تطوير فوائدها لمختلف البلدان وتفكر في تقليل أضرارها الجانبيه، بالإضافه إلى ذلك هو كون ترمب من أكبر المستفيدين كصاحب عقار لا ينفك الأجانب من شراء عقاراته كما صرح بذلك تكرارا بالإضافه إلى أن أغلب منتجاته مصنعه في الخارج مستفيدا من العماله الرخيصه اللتي جلبتها العولمه للشركات الأمريكيه.

من خلال متابعه في اليوتيوب لمقابلاته السابقه سوف تجد في ترمب نفسًا تحذيريا ومؤامراتيًا في تعليقاته على الأحداث، فهو بكل بساطه يتهم إدارة بوش الابن بالسذاجه لأنهم "لم يأخذوا النفط عند دخولهم للعراق" ضاربا عرض الحائط بجميع الأعراف السياسيه والقوانين الدوليه وكاشفا لبساطة فهمه، وكرر هذه المقوله بعد انتخابه كرئيس خلال كلمه ألقاها في مبنى ادارة الأمن القومي (CIA) حتى اضطر وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتس بإصدار تصريح عند زيارته للعراق متضمنا جملة "لم نأتي هنا في العراق لنأخذ نفط أي أحد" وهي كلمه موجهه للعراقيين بالمقام الأول حيث تحتاج الولايات الأمريكيه  لتطمين الداخل العراقي لأهمية عمق التعاون العسكري بين البلدين في الحرب على داعش.

في مقاطع أخرى من الثمانينات إلى مؤخرا خلال الحملة الإنتخابيه الشرسه اللتي خاضها ضد منافسيه من المحافظين واليساريين كرر ترمب مزاعم عده عن دول الخليج كان ملخصها بتصرف ان "تلك الدول غنية جدا وتملك الكثير من المال ونحن نقوم بحمايتهم بدون مقابل، يجب أن يدفعوا لنا مقابل مانقوم به لهم من حمايه عسكريه" ومن أكثر ما كرره خلال زياراته لكثير من الولايات والمدن خلال السنه الماضيه "سوف أقوم بإنشاء مناطق آمنه في سوريا وسوف أجعل دول الخليج تدفع تكلفتها".

يرى ترمب أن مهاراته في عالم الأعمال و "فن الصفقات" يسهل تطبيقها في المجال السياسي العالمي وقد صرّح الكثير من ناخبيه بأن نجاحه في مجال البزنس واقامه الصفقات هو المحفز الرئيسي اللذي جعلهم يؤمنون بنجاحه في الرئاسه، يخالفهم في ذلك الكثير من الخبراء السياسيين حيث التعقيدات الجيوسياسيه حول العالم لا يسهل حلها بسهوله كما يعقد رجل الأعمال صفقةً تجاريه، والنجاح في عالم الأعمال لا يعني النجاح في دهاليز السياسه وخلق التحالفات حيث تأخذ الآمور منحى غير مادي في كثير من الأحيان.

في نهاية شهر يناير الماضي ناقش الملك سلمان بن عبدالعزيز مع الرئيس الجديد في مكالمه هاتفيه موضوع حرب اليمن والأحداث في سوريا وأشارت وسائل الإعلام الأمريكيه والسعوديه عن اتفاق الطرفين على موضوع المناطق الآمنه في سوريا لكن حتى كتابه هذا المقال لم تخرج أي وسيله اعلاميه أو حكوميه  بالخطوط والنقاط العامه لهذا الاتفاق وكيف سيتم تطبيقه.

الجميع في الخليج يترقب ماذا ستنتج سياسات هذه الإداره الجديده في العديد من ملفات المنطقه الساخنه ومن أهمها إيران، ويبدوا ان هناك اتفاق في وجهات النظر بين السياسيين وأصحاب القرار في دول الخليج مع إدارة ترمب حاليا.

كان ترمب يصف الاتفاق الإيراني الأمريكي بخصوص النشاط النووي بأنه من أسوأ الإتفاقيات وكرر وعده خلال حملته بأنه عند فوزه سيقوم بـ"تمزيق الإتفاقيه" لأنها نوقشت بضعف من خلال إدارة الرئيس السابق أوباما. أما بعد فوزه واستلام وزراء الدفاع والخارجيه والمستشارين مناصبهم واصطدامهم بحسابات الواقع خفّت حدة هذا الخطاب وخرجت أصوات عديده من داخل الحزب الجمهوري –بالإضافه إلى رغبة الدول الحليفه خاصةً في أوروبا- تندد بخطوره الغاء الإتفاقيه بدون إيجاد بديل، وأن وجود اتفاقيه أفضل من عدم وجود البديل. تقريبا اختفت الأصوات المطالبه بإلغاء الاتفاقيه ولم يبقَ من حدة ترمب ضد الإيرانيين مؤخرا إلا بعض التعليقات من مستشاريه اللتي تبين حذرهم واحتراسهم من أي خطوه تقوم بها إيران ووعودهم بالرد القاسي على أي تحرك يهدد مصالح الولايات الأمريكيه لكن لم تحدث حاليا أي أفعال على الأرض تحد من الطموحات الايرانيه حتى اليوم.

 من الناحيه السعودية فقد نوقش موضوع الإتفاقيه النوويه في مكالمة ترمب للملك سلمان وذكر بيان البيت الأبيض أن الطرفين اتفقا على تطبيقٍ صارم للإتفاقيه وناقشا أهميه الانتباه الى تحركات إيران اللتي تهز استقرار منطقة الشرق الأوسط.

يملك ترمب علاقات عده مع أثرياء خليجيين وسعوديين من ضمنهم الوليد بن طلال اللذي زعم أنه انقذ ترمب من الإفلاس في بداية التسعينات عندما اشترى يخته "الأميره" بثمانية عشر مليون دولار في وقت كان ترمب رجل العقار يغوص في الديون على فنادقه اللتي كان يملكها في آتلانتك سيتي وعلى وشك الإفلاس، كما تدخل الأمير الوليد في تكتل مع مجموعة فنادق سنغافوريه لشراء فندق "ذا بلازا" العريق في نيويورك بعدما اشتراه ترمب ولم ينجح في تشغيله. كما يملك علاقة طيبه مع رجل الأعمال الإماراتي حسين سجواني المالك لمجموعة "داماك العقاريه" اللذي كان حاضرا مع عائلته في حفلة رأس السنه اللتي أقامها ترمب في منتجعه بفلوريدا بعد شهرٍ من فوزه بالرئاسه، وقد شوهد حاضرا لحفلات يوم التنصيب في واشنطن دي سي مع مجموعه من شركاء ترمب الآخرين من حول العالم، يملك ترمب وداماك حصصا مشتركه في منتجع للغولف افتتحه أبناء ترمب ايريك ودونالد جونيور الشهر الماضي في الإمارات.

قد تفسر هذه العلاقه مايفكر به ترمب وفهمه للمنطقه فهو لا يعرف من أبناء الخليج الا الأمراء ورجال الأعمال الأثرياء، وقد تكون هذه العلاقات مفتاحا جيدا يمكن من خلاله التأثير لكن حذر البيت الأبيض من أي تضارب بين مصالح الولايات المتحده ومصالح شركات ترمب المتناثره حول العالم واللتي بدأت تجلب الصداع لحزبه حيث يترصد الإعلام والحزب الديمقراطي لأي شبهة فساد قد تجعل دخول هذا الباب صعبا.

المصالح المترسخه بين البلدين تجعل من التقلب الحاد في العلاقه بينهما أمرا صعبا، بالرغم من برود العلاقه بين الخليج والبيت الأبيض خلال سنوات إدارة أوباما الا ان التعاون بين البلدين لم يتوقف خاصة من الناحيه الأمنيه. وكما ذكر أحد أقرب مستشاري ترمب المأمور السابق لمدينة نيويورك رودي جولياني أن “المملكه تمر بتحول ضخم وخاصةً تحت إدارة الأمير الجديد" وأضاف (بتصرف) "إنها ليست السعودية القديمه، ليست مثل السعودية في ٢٠٠٠ و ٢٠٠٢، الرئيس ترمب يتعامل مع سعوديه جديده تفهم واقع التطرف الإسلامي عالميا". كما تكررت مقولات مماثله عندما سأل وزير الأمن القومي جون كيلي عن السعوديه ولماذا تم استثناؤها من قرار حظر السفر الشهير.

لا أكون صادقا اذا اكدت على المتابع ان الرئيس دونالد ترمب سيقترب أو سيبتعد من السعوديه والخليج فمثل هذه الإدعاءات يصعب استنتاجها مع مانملكه من معطيات، أضف إلى ذلك تقلب أسواق النفط والتنافس الحالي بين أوبك والنفط الأمريكي الصخري فانخفاض أسعار الوقود مهمه لاستقرار الداخل الأمريكي ونمو اقتصاده بينما تقود المملكه تحالف أوبك لخفض الإنتاج العالمي والتوجه نحو التأثير لرفع الأسعار فشعار البيت الأبيض حاليا “أمريكا أولا”.

إذا توجه الرئيس بشخصية رجل الأعمال نحو الخليج فستعود العلاقات أقوى من السابق، اما اذا تمكنت قاعدته الإنتخابيه ومستشاريه المتأدلجين المتطرفين يمينيا من التأثير بشكل أكبر عليه فسيقوم بتصرفات معاديه للعالم الإسلامي بأعذار “مواجهة الإرهاب” تجعل من تقوية العلاقه بين المنطقتين أمرا محرجا خاصةً للملكه العربية السعودية ومكانتها القياديه في العالم الإسلامي.