من وحي سورة الكهف 11. (فتية / غلام / غلامان) 2

خلف سرحان القرشي

.....................................

تحدثنا في الأسبوع الماضي عن أهمية الشباب، من وحي سورة الكهف تأثيرا وعناية، وتوقفنا مليا عند مفردة (فتية)، وكيف أن فتية الكهف كانوا بعد الله سبحانه وتعالى - بشكل أو بآخر - سببا في تحول مدينتهم /دولتهم من الوثنية إلى التوحيد، وقلنا:

(إن في صلاح الشباب - لاسيما - في أول نبته - خير عظيم، وفي فساده شر مقيم).

ونستكمل الحديث اليوم عن نفس المحور، مستأنسين بالحديث عن (الغلام) الذي يقتله - بأمر الله سبحانه وتعالى - الخضر/ العبد العالم المعلم، خشية أن يرهق والديه طغيانا وكفرا.

قال تعالى:

(فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا).

وقال تعالى:

( وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا).

وتطرقنا في حلقة سابقة إلا أن الأسلوب الأنجع في التعامل مع مثل هذه النوعيات من الشباب هو في قتل التعلق بهم من قبل الوالدين والأقربين، وكل من يمت لهم بصلة، وذلك بعد أن تبوء كل محاولات توجيههم وإصلاحهم بالفشل.

في الطرف النقيض لذلك الغلام، نجد السورة الكريمة تتحدث عن (غلامين) يقيم لهما الخضر جدارا يريد أن ينقض دون أن يأخذ مقابل ذلك أجرا؛ وذلك لأنهما يتيمان، وتحت الجدار كنز لهما، وأبوهما كان صالحا.

قال تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).

وقال تعالى:( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ...).

إن حالة الغلام الأول الذي قتله الخضر تؤكد -كما ذكرنا سابقا- أن في فساد الشباب شر مقيم على أنفسهم، وأهلهم، وذويهم، ومجتمعهم، بل وعلى الإنسانية عموما.

لذا يجب استصلاح الشباب، وقتل كل بذور الفساد، و دواعي الشر إن وجدت فيه قبل أن تتمكن في نفسيته، وتتغلغل في جوانحه، وتصدقها جوارحه.

الغلام هنا تأكد فساد سريرته، وسوء نواياه، وخشي من تفاقم ذلك، وانعكاسه على إيمان والديه اللذين لم ينشأ هذا الغلام على صلاح مثل صلاحهما وهذا يحدث أحيانا وإن كان بخلاف السائد والأعم، ولعل ابن سيدنا نوح عليه السلام، مثالا على ذلك:

(وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ).

أما في الحالة الثانية، فالغلامان هنا في الأعم والأغلب هما مظنة الصلاح -والله أعلم- عطفا على صلاح أبيهما، وهذا هو المشهور والسائد:

وينشأ ناشئ الفتيان فينا / على ماكان عوده أباه

ومثل هذين الغلامين محتاجين للرعاية والاهتمام والدعم، وما إقامة الجدار على كنزهما المخبوء حفاظا عليه، إلا عون لهما على النجاح والفلاح، وشق طريقهما في الحياة، وذلك بعد أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما.

إن كل قادر فردا كان أو مؤسسة، ملزم/ة بمساعدة الشباب في الحفاظ على كنوزهم المخبؤة، واستخراجها في الوقت المناسب بمقابل إن تيسر، وبدون مقابل وهذا أفضل وأنبل.

ونزعم أن في أعماق كل شاب كنزا ثمينا، يحتاج من يحافظ عليه له، ويساعده على استخراجه عندما يبلغ أشده، ويكون أهلا لاستثماره والانتفاع به لنفسه أولا، ونفع الآخرين به ثانيا.

أليست الموهبة الفذة في أي مجال كنز بل كنوز، فيها منافع للإنسانية، وإسهام في عمارة الأرض؟

تلك الموهبة كامنة في أعماق كثير من الشباب في كل زمان ومكان.

إن ماتقوم به اليوم مؤسسات ومراكز تعنى بالشباب، وتنمية مواهبهم المختلفة، وتطوير قدراتهم، هو مشابه لصنيع الخضر عليه السلام مع جدار الغلامين.

لو ترك الخضر الجدار دون إقامة، فسينقض بحكم عامل الزمن، ونفس الأمر ينطبق على الشباب المبدعين وما أكثرهم عندما تترك مواهبهم وقدراتهم دونما حفظ وعناية وتشجيع ودعم، فإنها تتلاشى وتتضاءل إلى أن تزول، وتصبح أثرا بعد عين.

نحسب -والله أعلم- أن الغلامين اللذين أقام لهما الخضر الجدار؛ ليحفظ كنزهما إلى حين قد صلح حالهما، ونحسب أن ذلك الكنز كان معينا بعد الله عز وجل لهما على الصلاح، وتمتد بذلك دورة الصلاح من الأسلاف إلى الأحفاد، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ونفس الشئ يمكن أن يقال عن قيام المربين والتربويين والقائمين على أمور الشباب بدورهم في استخراج الدرر الكامنة في نفوس الفتية، والذين بدورهم سوف يؤدون رسالتهم تجاه أبنائهم، وهلم جرا.

ختاما ماأجمل أن يكون كل منا خضرا يقيم ويبني بأمر ربه، وعلى هدي من كتابه الكريم، ومنهاج نبيه صلى الله عليه وسلم، وطرائق الصالحين الراشدين في كل زمان ومكان.

.......

لمطالعة الحلقات السابقة، هذا الرابط:

https://oktob.io/qkhalaf2