Image title

د. علي بانافع

    (إن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتُشَدُّ إليها الركائب والرحال، وهو ظاهرة لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُوَلْ، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق). [ابن خلدون] 

     مضى زمن بغيضٌ على العرب بعد أن حكمهم غير العرب فضعف فيهم الإحساس بأهمية التاريخ وما فيه من الفوائد والعبر، وأعرضوا عن قرائته قراءة واعية مستبصرة، مع أنه لأهميته البالغة فقد انتحله علماء السلف واشتغلوا به كابن إسحاق وابن سعد وابن الأثير والذهبي وابن كثير وغيرهم، وقد تعرضت في مقالة سابقة عن جناية وسائل التواصل الاجتماعي وكيف أثرت في التاريخ، وأُعيده هنا لأهميته: (ظاهرة جديدة من مفرزات القرن الواحد والعشرين، الأسماء المُرمزة والمجاهيل، هؤلاء يتحكمون بعلم التاريخ في المواقع والمنتديات، ووسائل التواصل الاجتماعي كأهل تاريخ، باعتبار المهم المطروح وليس منْ الطارح، التاريخ له رموزه وأعلامه ولا يمكن للتاريخ أن يتزعمه أشخاص وهميين يخشون من إظهار أسمائهم!! ربما هذا في ظرف ما؟ أو موضوع ما؟ أمر مقبول، أما في علم التاريخ فأمره ليس كأمر السياسة، فلا ينبغي السماع لهؤلاء حتى لا تحدث فوضى علمية وقد حدثت؟! المؤرخ وصاحب التاريخ شخص معروف في الواقع وليس في العالم الافتراضي، ويبدو أن التقنية الحديثة ستسبب لنا أمراضاً كثيرة وقد حصل ذلك، فقد اُبتلينا في الآونة الأخيرة بفئة من الناس يريدون أن يكونوا مؤرخين -رغم آناف الناس جميعاً- بينما هم لا يعرفون من التاريخ سوى أسماء الأمكنة والأعلام، ومشكلتنا في وسائل التواصل الاجتماعي أن كثيرين نصبوا أنفسهم مؤرخين بدل أن يكونوا مرشدين، والحقيقة أن كثيرين منهم أساؤوا إلى التاريخ ومنهجه إساءة بالغة، إذ هم يتحولون في ميولهم التاريخية كدودة القز من طورٍ إلى طور، دون يشعروا بدناءة ما يفعلون، فالتاريخ فنٌ من الفنون لا يجيده كل من هبْ ودبْ، وهو علم وملكة لا يملكها كل أحد، أقول ذلك لأني أرى فئة من الناس يريدون أن يتكلموا بالتاريخ فأفسدوا وما أصلحوا، في الغرب المتحضر التاريخ اختصاص، لكن هؤلاء أصبح عندهم ردة فعل من هذا الكلام).

     وأود أن انتهز هذه الفرصة لأُبين وجهة نظر علم التاريخ في هذا الموضوع، فالمعروف عن علم التاريخ أنه يدرس حركة المجتمع والدين والأدب والاقتصاد والسياسة وما أشبه، ولقد ثار من جراء ذلك جدال طويل وقديم بين الباحثين، أيجوز لعلم التاريخ أن يتدخل في مواضيع هي من اختصاص غيره؟! ومن التهم التي وجهت إلى علم التاريخ أنه أصبح كدائرة معارف لذلك أطلقوا عليه أبو العلوم؛ إذ هو يتدخل في كل فرع من فروع العلم والمعرفة ويبدي رأيه فيها، ومعنى هذا أنه يشبه الملح الذي يدخل في كل طبيخ عندنا، وكان جواب علماء التاريخ على هذه التهمة أن علمهم لا يَدرس فروع المعرفة المختلفة إلا من الناحية التاريخية، فهو حين يَدرس حادثة اجتماعية مثلاً، يستعين بعلم الاجتماع في دراسة ظواهر المجتمع البشري، بينما التاريخ يُحقق في تلك الحادثة بإستقصاء القرائن والدلائل فيها ويصدر بعد تحقيق تلك الحادثة النتائج فيها، فيأخذ علم الاجتماع النتيجة التي توصل إليها علم التاريخ ويستعين بها في دراسة المجتمع البشري بوجه عام، فالمجتمع البشري مؤلف من جوانب دينية وتاريخية وسياسية واقتصادية وغيرها، وإذا لم يُؤرخ علم التاريخ لهذه الجوانب، فماذا يُؤرِخْ أو يَدرسْ إذن؟!

    صحيح أن الباحث الذي يتجول في صفحات التاريخ يستمد دروساً لا تقل أهمية عن تلك التي يستمدها من التجول في أنحاء المجتمع، وبعبارة أخرى إن تجول الباحث في الزمان لا يقل نفعاً عن تجوله في المكان كلاهما يمده بالمعلومات الضرورية لفهم طبيعة التاريخ وحركته، ولقد حاول بعض علماء التاريخ في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية أن يحددوا موضوع علمهم في نطاق ضيق خاص به لا مساس له بمواضيع العلوم الأخرى؛ وذلك لكي يتجنبوا اللوم الموجه إليهم من العلوم الأخرى؛ لكنهم لم يوفقوا في ذلك، وإني لأرجو أن نُوفق فيه لكي نتخلص من هذه الورطات التي نقع فيها مع الأدباء أو السياسيين حيناً بعد حين ولا حول ولا قوة إلا بالله ..

     فالتاريخ ليس حكاية نسردها للتسلية كما يحلو للبعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي،  بل وقائع وأحداث علينا أن ندقق فيها ونعي دلالتها ومعانيها، وإذا انتفى التمييز بين الواقع والخيال وتساوى الصحيح والسقيم، لا يعود بإمكاننا التفرقة بين الحق والباطل، وبالتالي لا يعود بإمكاننا معرفة التاريخ ومعرفة أنفسنا، لذلك كان من واجبنا كباحثين أن نكون على مستوى المسؤولية التاريخية في تناول أحداث الماضي القريب والبعيد، وأن نكون القدوة العلمية لجيلنا بمرجعية الحقيقة التاريخية وثوابتها الأخلاقية، فالحقيقة هي الهدف الأسمى الذي يسعى وراءه المؤرخون، ولكن تطور علم التاريخ لم يجعل من طلب الحقيقة هدفه الأسمى فحسب!! وإنما صار تفسيرها أمراً أكثر إلحاحاً من ذي قبل، وصارت عمليات التحليل والتفسير والبرهنة من وسائل الباحث الجيد، بل إن مثل هذه التبريرات صارت معايير بين العمل الجيد وغيره، أي بين العمل المتميز الذي يقوم عليه مؤرخ متمكن في علم التاريخ وقواعده وطرائقه، يتسم بالمنهجية والموضوعية والترابط، والعمل التقليدي الذي يقف به هؤلاء مجرد سرد ممل لأحداث لا قيمة لها بذاتها، مثل هذه التسجيلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن المؤرخ مطالب بتقديم الدليل أو الرأي فيما حدث؟! وليس مجرد رصد وسرد الأحداث ذاتها كالبغبغاء أو الحكواتي في ألف ليلة وليلة ..