بسم الله الرحمن الرحيم


خلال الدقائق اليسيرة التي أقطعها بالمشي على السَّير في الأيام الماضية، كنت أستمع في أثنائها موادّ صوتية مختلفة للشيخ محمد العثيمين –على قبره رحمات الله- فبعضها شرح وتعليقات على بعض الكتب والمتون، وبعضها جوابات عن سؤالات واستفتاءات ..

هذا العالم الفذّ رغم كثرة استماعك له ورغم شعورك أنك على صلةٍ وثيقة بنتاجه العلمي، إلا أنه في الغالب سيحافظ على بقاء عناصر دهشتك بفرادته وألق لغته وقوة نتاجه المعرفي حتى آخر أيامك، فإنك إن لم تبهرك قدراته العلمية إبهارا فستظل –على الأقل- مُسَلِّما بقوة حجاجه وجمال عرضه ورسوخ علمه وندرة المادة الإنشائية في تضاعيف جواباته وفتاياه! والأعجب من ذلك هو تداخل معارفه واشتباكها!

وهذا هو حدُّ الكبار في أي مجال، هو أنهم مهما غابوا عن قلبك وتواروا عن ناظرَيك وداهمك شعور ساذَج أنك تركتهم وراءك ثم عدتَّ إليهم إذا بهم ما زالوا يحتلون في قلبك مرتبةٍ سامقةً، كأنما كانوا يركضون معك وأمامك في كل مراحِلِك، فكالقمر يلوح للمسافرين خلف السحب المتراكمة وكلما توهَّموا أنهم سبقوه ظهر لهم مجددا من بين الغيوم التالية!

***

انتقد دكتور الفلسفة طه عبدالرحمن ابنَ رشد الحفيدَ بأن معارفه الفلسفية مبتوتة الصلة بمعارفه الفقهية، فكأنما فلسفة ابن رشد وفقه ابن رشد عِلمانِ منفصلان في صِدر رجلين، ولم يكونا علمَين في صدرِ رجل واحد، فقال: (لئن صحَّ أن نقول بأن ابن رشد فقيه وفيلسوف معا، فلا يصح بأن نقول بأنه فقيه فيلسوف.. إن ابنَ رشد لم يبدع في الفلسفة عن طريق الفقه، ولم يبدع في الفقه عن طريق الفلسفة).

وبغضِّ النظر عن الأمثلة التي أوردها الدكتور طه عن العلماء الذين نجحوا في الدمج بين المعارف وتوظيف علم داخل علمٍ آخر، إلا أن هذه الإشارة الطاهِيَّة في ذكر الانتفاع بالعلوم المختلفة حصيفة جِدّا، فإنك سترى كثيرا من أهل العلم في القديم والحديث يجمعون فنونا شتى من المعارف، وقد شرحوا كتبا في بضعة علوم، لكن ستجد ثمة خيط رقيق يفصل بين هؤلاء المتفننين، فكثير منهم كانت تلك العلوم في صدره غير متداخلة، فهي أشبه ما تكون بالجزر المتجاورة المعزولة، وأقرب إلى الأراضي الشاسعة التي ليس بينها حدود متصلة.

..

بينما الأمر الذي لا يمكن أن يفوت عليك في أثناء مطالعتك نتاج العثيمين أنه نجح ببراعة في صهر مادته النصوصية الفقهية العقدية الأصولية النحوية التفسيرية في إناء واحد، فكانت خالصة سائغة للشاربين، بل حتى القصة الطريفة يرويها الشيخ في باب اللقطة من زاد المستقنع فلا تشعر أنها عضو زائدٌ في ذلك الباب ، وإنما هي متناغمة مع عامة المعلومات، كلها تخدم فكرة الشيخ وتدعم رأيه الذي أراد ترجيحه بدليله. 

والشيخ يورد مادَّته العلمية تلك باسترخاء تام كأنما هو يقرؤها من لوح معلق بين عينيه، ويذكر خلال تلك الحالة المطمئنة قواعد وشواردَ وفوائد بلغةٍ فصيحة مليحة معربة أواخر الكلمات دون أدنى لحن، سوى ما يتعمده أحيانا من إطلاق جملة عامية عابرة ترويحا للنفوس، وبالمناسبة مَن الملاحظ أنَّ مَن اعتاد الحديث بلغة فصيحة في عامة أحاديثه، فإنه يُستملح منه هذه الجُمَل العامية العابرة وتلتقطها المسامع، ويظل رنينها في النفوس . 

..

وفي نظري الشخصي أن أكبر رافدَين ساهما في رسوخ المعارف في صدر الشيخ وتداخلها والتقائها على أمر قد قُدِرَ هما: التأمل، ومداومة النظر. 

..

أما التأمل فلم يكن الشيخ مجرد ناقل جامد  للمعارف والعلوم، وإنما تدخل المعارف في ذهن الشيخ بصورة ما ثم تخرج منه أجملَ حُلةً وأبهى منظرا وأرقَّ حاشيةً، فالشيخ مولع بالاستنباط والتأمل وإمعانِ النظر وكثرة تقليب المعارف في الذهن، ولم يكن هذا المسلك التأملي عند الشيخ طريقةً يفعلها دون وعي تام بها، بل نصّ الشيخ على طريقته التي سلكها في التأمل والاستنباط وذلك في لقاء معه، فذكر أن طريقته في مطالعة النصوص ليست (على سبيل النقل كما يفعله بعض الناس). وقال عن آثار الاقتصار على النقل بلا تمعن وتأمل:(الإنسان إذا قصر نفسه على اتباع غيره فإنه يجمد ذهنه).

ولاشك أن الناقل المجرد هو أعظم أجرا ممن يجتهد على غير سبيل صحيح، لكن كلامنا عن هذا الشيخ الذي استكمل آلته .

..

ومن اللطيف أني سمعت أحد الطلاب سأل الشيخ سؤالا طريفا قال فيه:
يا شيخ أنا أراك في النوم، وأسألك أسئلة فتجيبني، فهل أنقل فتواك؟ فضحك الشيخ والطلاب. ثم قال: انقل ما تسمعه في الدروس والأشرطة لأني ما أشعر بك وأنت تسألني ، (وحنَّا ما ندرس نومى).

ثم انطلق الشيخ يسوق قصة من إعلام الموقعين ذكرها ابن القيم عن ابن تيمية بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن مسألة مشكلة، وهي الصلاة على بعض المبتدعة الذين يشك في إسلامهم، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: الشرط يا أحمد! ثم  استنبط الشيخ من هذه القصة استنباطا وذكر من خلالها بعض القيود الضابطة، فانظر كيف يمتح الشيخ من نبع فوائده وشوارده حتى من سؤال طريف عابر!

***

وأما الرافد الثاني فهو مداومة النظر في العلوم فلا شك أن أعظم ما انتفع به الشيخ في ترسيخ معارفه وضبطها التام إلى درجة تداخلها ببعضها في صدره، هو أنه لم يكن ذواقة للعلوم، وإنما كان مداوما للنظر فيها طيلة عمره، واعتبر هذا بالنظر في صرامته التامة مع نفسه ومع الناس في حفظ الوقت واستغلال أنفاس العمر في التدريس والتعليم والفتيا والنفع، وكثيرون لا يلتفتون لهذا الجانب العظيم في شخصيات الناجحين من أهل العلم وإنما يلتفتون فحسب إلى القدرات المتعلقة بالحفظ والفهم ويبالغون في ذكرها.

والحفظ والفهم –على أهميتهما- لا يكاد ينتفع بهما الأذكياء الذين لا يغتنمون الفرص في أعمارهم، وكي لا يكون الكلام دعوى مجردة، فهذان شاهدان على دأب الشيخ محمد وصرامته مع نفسه، وقد نقلهما تلميذه مازن الغامدي، قال التلميذ عن عادة الشيخ في الحفاظ على برنامجه اليومي: (مِنْ عَمَلِ شيخِنا أنه يواظب على الشيء إذا فعله مهما كانت الظروف ويحترز لذلك) .

وذكر أنه بسبب ضيق وقته في مكة في رمضان بسبب غزارة الفتاوى والدروس فإنه كان يزيد على حزبه اليومي قبل ذهابه إلى هناك!

..

أما محافظة الشيخ على انتظام درسه واستمراره بلا أي انقطاع فهو آية من آيات الله الباهرة، فلا يكاد الدرس ينخرم لأي ظرف ما دام الشيخ في عنيزة، قال تلميذه مازن عن عناية الشيخ بدرسه، بأن من عادة شيخه أنه:
(لا يفرط في درسه ولو جاء من سفر بعيد قبله بدقيقة!) .

ثم روى مازن موقفين توضحان صرامةَ الشيخ واعتناءه باغتنام ساعات العمر في نشر العلم، أحدهما شهده بنفسه، والآخر رواه له أحد كبار الطلبة ، فقال عن الأول: 
(أذكر مرة جئت مع الشيخ من الرياض برا برفقة تلميذه.. وصلنا على أذان المغرب سألت الشيخ: هل الليلة درس؟ قال: نعم؟ بالتأكيد إن شاء الله اذهب وأحضر كتبك وتوجه للجامع!).


 والموقف الآخر رواه أحد كبار الطلبة لمازن، وهو بحق موقف استثنائي في مدونة التاريخ، يقول عن يوم وفاة والدة الشيخ محمد -عليهما رحمات الله-: (توقعنا بل جزمنا أن الشيخ لن يحضر الدرس، ولذلك كان الحضور ليس بذاك، ومع ذلك حضر شيخنا وألقى درسه!) .

بصراحة سرت في جسدي قشعريرة غامرة لتوالي  فرص النفع التي استمرأنا رَكَلها وتأجيلها وإزاحتها لأدنى عارض إلى الأسبوع القادم والشهر القادم والفصل القادم والسنة القادمة والعِقْد القادم وربما القرن القادم! 

ولِكون هذا السلوك أصبح شائعا بين كثيرٍ من طلاب العلم ومَن فَوقَهم أمسينا لا نشعر بوخزات التفريط وكلاليب التقصير، والإشكال الأكبر أن المطامح العالية في نفوسنا لم تبرح مكانها ، فما زلنا نحلم كل مساء أن ننال نتائج الأئمة ببرامج البطالين!

 

سليمان العبودي
5/ 6/ 1438هـ