قلناها مرارا وتكرارا ؛ لا يستقيم الوضع السياسي في العراق الا من خلال القضاء المبرم على كل اشكال والوان ومصاديق الخط المنكوس , ولعل من ابرز الدعوات الهدامة لاتباع هذا الخط المشؤوم ؛ تفضيل المصالح الخارجية والاجنبية والغريبة والفئوية والحزبية على مصالح الوطن والامة والاغلبية العراقية , وتقديم الهويات الفرعية على الهوية الوطنية الاصيلة , والايمان بالولاءات الخارجية والكفر بالعراق وبكل ما يتعلق به , وتغليف تلك الدعوات المنكوسة بالحجج الدينية الباطلة والشعارات القومية المزيفة والادعاءات السياسية الكاذبة ؛ والذرائع الفكرية والثقافية الساذجة والسطحية .

ومن الواضح ان حب الوطن والتمسك بالهوية الوطنية , من العادات الانسانية الراسخة في النفوس البشرية ؛ فالمرء مجبول على حب وطنه وديار الاهل والاحبة , والاعتزاز بقيمه وتراثه وتاريخه وهويته الوطنية ؛ وروي عن الأصمعي من أنه سمع إعرابياً يقول :  "إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف شوقه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكاءه على ما مضى من زمانه" ... ؛ وقد أكدت الاديان السماوية والوضعية على هذه السجية , وعدها البعض من أهم القيم الاخلاقية والمثل السامية ؛ وبما ان استقرار الوطن لا يتم لا من خلال النظام السياسي المستقر والحكومة الوطنية المنتخبة من قبل الشعب ؛ صار لزاما على المواطنين دعم حكوماتهم الشرعية لأنها تصون الوطن وتعمل على خدمة المواطن , وبغض النظر عن مستوى اداء تلك الحكومات , ولعل الحديث المنسوب للإمام علي يؤكد اهمية وجود الحكومات في ضرورة حماية الاوطان وتسيير الامور ولو بالمقدار البسيط ؛ اذ قال : (( ...  وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر ,  يعمل في إمرته المؤمن. ويستمتع فيها الكافر ؛  ويبلغ الله فيها الأجل ,  ويجمع به الفيء ، ويقاتل به العدو,  وتأمن به السبل , ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بر ويستراح من فاجر ...  ))  نعم قد يتضمن الولاء للوطن الولاء للسلطة تلقائيا ان كانت سلطة وطنية منتخبة وشرعية ؛ وقد يتعارض الولاء للسلطة مع الولاء للوطن ؛ وذلك فيما اذا كانت السلطة خائنة وعميلة ودكتاتورية ولا تمثل ارادة الشعب  كما هو الحال مع الحكومة البعثية الصدامية البائدة ... .  

والخضوع للقوانين والأنظمة والتشريعات يحقق مصالح الأمة العراقية ، وهو سبب للقوة والنهضة في جميع المجالات ، لأن السبب الرئيسي من وضع هذه الأنظمة هو تحقيق الاستقرار والنظام العام ، وتعبر إطاعة النظام دليل على ولاء وانتماء الأفراد للدولة  ... ؛ هذا بالنسبة للأشخاص العاديين والمواطنين ؛ فما بالك بالموظف الحكومي الذي يتحتم عليه ؛ بالإضافة الى حب الوطن وتقديم مصالحه على كافة المصالح الفئوية والحزبية والقومية وغيرها ؛ الولاء للحكومة الشرعية والالتزام الوظيفي وتحقيق اهداف الحكومة وتنفيذ قراراتها .

نعم مجتمعاتنا تعج بالهويات المتعددة والولاءات المختلفة ؛ فكثيرة هي تلك الولاءات : الولاء للدين , الولاء للقومية والعرق , الولاء للمذهب والطائفة , الولاء للقبيلة والعشيرة , الولاء للحزب والحركة السياسية ... الخ ؛ الا ان تلك الولاءات ينبغي ان لا تتعارض مع الولاء للوطن ؛ فالولاء للوطن اولا واخيرا , وهذه الولاءات يجب ان تكون في طول الولاء للوطن وليس في عرضه ؛ والبعض يحاول الالتفاف على هذه البديهة من خلال ادعاء الولاء لله لتمرير مخططاته الخبيثة في اهلاك البلاد والعباد , فمن اوضح الواضحات ان الولاء لله لا يتقاطع مع الولاء للأوطان , لان الله لا يكن العداء والضغينة للشعوب والاوطان ؛ فالكل عنده سواء ؛ بل العكس هو الصحيح , يجب شكر الله على هدية الاوطان والتنعم بخيراتها ؛ فلولاها لما عرفنا نعم الله وآلاءه  .

وقد اثبتت التجارب التاريخية والسياسية ان تعدد الولاءات المختلفة والهويات المتناقضة والتي تتقاطع مع الهوية الوطنية ؛ لا يجني منها الوطن الا الخراب والدمار والخسائر الباهظة , فإذا تخلف الجندي عن اداء واجبه بسبب ان الارهابيين الدواعش من طائفته او منطقته او عشيرته , وترك موقعه وهرب من مواجهتهم , وكذلك لو ترك المعلم المدرسة استجابة لأوامر حزبه  ... الخ ؛ لعم الهرج والمرج وشاعت الفوضى , وانحل عقد النظام , وعشنا قانون الغاب ؛ وعليه يجب على الامة العراقية حكومة ومواطنين ؛ عدم التساهل مع هذه الخروقات القانونية وهذا التسيب والاستهتار الذي يهتك سيادة الدولة وهيبة الحكومة الشرعية ؛ وذلك من خلال انزال العقوبات بحق المخالفين وطردهم من الوظائف الحكومية ... ؛ فالموظف المؤدلج من ذوي الولاءات المتقاطعة مع الهوية الوطنية والسياسة الحكومية الشرعية ؛ مستعد لفعل اي شيء من اجل حزبه وفئته وبغض النظر عن مصلحة الوطن والمواطن ؛ وامثال هؤلاء يسخرون كل امكانيات الحكومة وموارد الدولة لتحقيق اجنداتهم الضيقة واهدافهم الطائفية والقومية والحزبية والفئوية ؛ بل والاضرار بالحكومة وعرقلة سير اعمالها وتعطيل مشاريعها احيانا كما يفعل البعثية في بعض الدوائر .  

لذا نشاهد ان البلاد التي تعيش تعدد الولاءات المختلفة والهويات الفرعية والتي تتعارض مع الهوية الوطنية والحكومة الشرعية ؛ تعاني من مختلف الازمات والنكبات والانتكاسات والمؤامرات , فحينها يصبح الولاء للوطن مجرد شعار كاذب فارغ من كل محتوى حقيقي , واكذوبة كبرى , يستطيع ابسط مواطن اكتشافها وذلك من خلال التفاصيل اليومية  التي تكمن فيها شياطين الولاءات الخارجية ومردة الهويات الجانبية , فلا يغرنكم بكاء القوم على الوطن ولا تظاهرهم بالوطنية ؛ اذ ان الوطنية ايمان بالقلب واقرار باللسان وعمل بالجوارح والاركان ... ؛ بينما نشاهد في البلدان التي تعتبر الولاء للوطن من المقدسات كاليابان - مثلا – مظاهر العظمة والكرامة والاستقرار والازدهار .

ولا يوجد بلاء اشد من انتشار الموظفين المؤدلجين اصحاب الولاءات المتعارضة مع الهوية الوطنية وسياسة الحكومة الشرعية ؛ في دوائر الدولة , وشيوع ظاهرة الولاء للخارج بين المواطنين , بالإضافة الى مجيء حكومة عميلة وغير شرعية , ولا تربطها بالوطن اية رابطة حقيقية .