استفتاح:

( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلا)

هذه قصة من قصص التاريخ وجدتها دفينة بين جنبات أحد الكتب (ما كان للكتاب من غلاف بل مجموعة صفحات عتيقة عفى عليها الزمن وأكلت الدويبة جزء من اوراقه)

حادثة فيها معنى جميل مما يستأنس به.. ذكر أبو جابر الكوفي وهو رجل تاجر في الأصل لكنه يدون حوادث تمر به في حله وارتحاله؛ وهذه من فوائد تدوين الذكريات واليوميات، ففيها فوائد من السهل الممتنع كما يقال.

ذكر أنه رأى رجلا على طرف نهر الفرات تحت شجرة سدر كبيرة تحتوي جلاسها كالأم الحنون تحف مستظلها بأغصانها؛ فوجدت رجلا متكورًا لا تكاد ترى رأسه من قدميه لا يلتفت ولا يتحرك كأنه حجر أصم؛ فدنوت منه لأرى خبره فما أرعاني اهتماما عند إقبالي عليه فزاد من حيرتي فلما وصلت إليه وما رفع رأسه وما حرك عينيه وجلت وتراجعت عنه؛ ثم خطر لي خاطر أن أذهب فألقي السلام عليه فلعله كفيف لايبصر؛ فتنحنحت في سيري عله ينتبه أو يتحرك فما تحرك فلما دونت من الشجرة وما بيني وبينها إلا ذراع ألقيت السلام عليه فما رفع عينيه إلا وقد أنزل رأسه؛ كأنما ألمّ بعينيه مرض لا يستطيع أن يرفعهما إلى ضوء الشمس؛ فاطمأنت نفسي واستأذنته أن اتفيأ معه تحت ظل السدرة فأذن لي؛ وما إن سلمت عليه حتى بادرني بالتأسف والاعتذار فلم يقم للسلام علي بسبب ألم في عينيه لا يرى منهما إلا أيسر اليسير؛ حتى أنه لا يرى أأنا على يمينه أم شماله! فحزنت على حال عينيه ورثيت عليه؛ فجسمه نحيل يبدو السقم على على وجهه ولباسه رث متسخ فاستحييت أن أكثر عليه من السؤال ودعوته إلى منزلي فأبى علي وقطع يمينا لا يبرح مكانه فتركته مكرها إلا أنني ألزمته بأن أتكفل بطعامه فقبل مني على استحياء وعظيم امتنان.. فأرسلت ابن أخي بفرش وماء وزاد؛ وأخذت طريقي إلى تاج الدين صاحب الخان فطلبت منه حجرة لمدة لم أحددها إلا أني سأتيه كل صباح بدرهمين فقبل؛ فنزلت الى السوق واشتريت مايحتاج اليه من لبس وزاد وموقد وما إلى ذلك فلقد لمست منه حياء وعزة نفس فما أحببت أن أكثر عليه بزياراتي فأتركه حرا في معيشته يسير يومه كما يشاء فابتعت ماشاء الله أن أبتاع؛ وما أن فرغت من صلاة العشاء إلا وقد انصرف كل الى بيته وملجأه وصارت الكوفة كأنها في هجيع الليل لا تسمع همسا ولا ترى ماشيا إلا من رجل من العسس يقف على باب الأكوع؛ فسرت قاصدا السدرة وما تغير الرجل على حاله ما اضطجع وما تمدد كأنه مجسم منحوت! فسألته: ألم تسترخ؟ فشكرني ولم يجب.. فعرضت عليه أن يذهب إلى الخان فهو آمن له واستر؛ ولعله يأنس مع النزلاء إذا أراد.. فأبى خشية أن يُثقل علي فما تركته حتى قام معي فحملت متاعه إلى مدخل الخان فناديت (سنجق ) وهو غلام فارسي يعمل في الخان فحمل متاعه ودله على غرفته وقد استأجرت له غرفة لا يشاركه فيها أحد..

 فودعته وشكرني وانصرفت.

ثم أنني أحببت أن أتفقده من الغد فحاله لا يسر من رأه.. بل يترك فيك أسى وحزنا ما أن تراه ولكني توجست أن أثقل عليه فيستثقلني..

ففكرت أن أذهب للمسجد القريب من الخان فلعلي ألقاه وأسلم عليه وأطمئن على حاله

فلقيته في المسجد وسلمت عليه وسالته عن حاله فوجدته بحُلةٍ نظيفه؛ وأبى عليّ إلا أن أشاركهُ شايا معه جاء به من بلده لا يستغني عنه فقبلت على رحب وسعة وانطلقنا.. فدخلنا حجرته في الخان وشرع في إصلاح الشاي ثم سكب لي منه فما أذكر أني شربت أطيب منه..! ثم استلطفته وسامرته فما أن وجدته استراح وانشرح إلا بادرته بسؤاله عن اسمه؟

فقال : (سنحون) وما زاد عليها! وما كان من عادة العرب أن يذكروا الاسم مفردا لا ينتسب لأب! فتعجبت ولكني صمتُّ.. فسألته عن عينيه وما علتهما..؟

فقال: إني أستطب لهما ما استطعت؛ لا أسمع عن طبيب أو صيدلي إلا أذهب له في أي بقعة من الأرض فمترت الأرض يمينا وشمالا أستطب

فما وجدت شيئا يذهب المرض.. إما يخففه أو يعالجه علاجا منقطع أي بمدة محددة ( مهدئ ) وما وجدت من الأطباء من زاد على صاحبه فكلهم يتشابهون في تشخيص المرض وعلاجه

وإن اختلفت الوانهم ولغاتهم! فما لي إلا أن أصبر وأحتسب.

فواسيته بما يوصي الأخ أخاه؛ وكدت أن أسأله عن حاله الكسيف لكن حياؤه وحشمته أسكتتني، فقلت له فما جاء بك إلى الكوفة؟ ألك حاجة أقضيها؟

فقال: إنه سُمّي له عشّاب مشهور يطبب العيون لكنه نسي اسمه .. أراد أن يعرض عليه علته فأخبرته باسمه، وكان عشابا معروفا من أسرة عطارة من أشهر أسر الكوفة..

ثم عرضت عليه أن أذهب به لطبيب ماهر في البصرة وإن لم يتشافى نعود للعطار الذي في الكوفة.. فوافق من فوره فانطلقنا من صباح الغد ووجدنا في سفرنا ما يلقاه كل مسافر من تعب ومشقة إلا أن برودًا وسمتا في خلقه خفف علي جلد السفر..

فلما كشف عليه طبيب العيون وبَصر علته أطرق برأسه؛ ثم استأذن للخروج!

فلحقته وسألته عن علة صاحبي؟فأسّر لي أنه يشكو من هزال ورقة في العظام وتيبس في الجلد وقال: إن صاحبك هذا كأرض مجدبة،

لا بدّ أن تعاد لها الحياة قبل أن تزرع..

 لذا في تطبيب هذه الأمراض يكون تعب العلاج كتعب المخاض!لأن الجسم ينتعش وتتجدد خلاياه وأنسجته فيتألم المريض شديد الألم..

فوصف له علاجا زهيدا مالم يخطر لي على بال وندمت على ما قطعناه من الفيافي وما جالدناه من تعب؛ وتمنيت لو بقينا عند الحكيم العطار في الكوفة.. ولكني الآن وأنا أدون هذه القصة أندم على استعجالي في الحكم..


أمرني العطار أن آخذ صاحبي وأعطيه في صباح الغد كأس ماء ساخن فيه قطرة من زيت الزيتون..!

فأخذت صاحبي مشدوها أقول في نفسي أهذا ما جئنا من أجله؟ ولكن لاحيلة لي.. وفعلت من الغد ما أوصاني عليه الطبيب.. فما رأيت على صاحبي لا عسرحلّ به ولا ضر مسه

فذهبت إلى العطار وسألته فقال غدا تعطيه ما وصفت لك بالامس وتزيد عليه نقط من العسل ..لا أزيد عليها، ففعلت ما أمرني به فما أمسى الظهر علينا إلا وصاحبي يتأوه من ألم نزل عليه في بطنه! فتوهجت وانتشيت.. وقلت لعله بداية التشافي فسررت فأسرعت للعطار وأخبرته الخبر

فبشرني؛ وقال هذه أول العافية.. فالجسم بدأت تدب فيه الحياة فتتصارع الأنسجه الجديدة مع الخلايا الميته فأيهما الأقوى ينتصر

وعليه فالزم صاحبك حتى يستقوي ويدفع ضعفه ثم يقوى عوده ويشتد فيعمر جسده.. ثم تناول كراسته وأخذ يكتب لي وصفته وأمرني ألا آتيه إلا بعد أسبوع..

فأخذت الوصفة فما كان فيها اختلاف عن ما مضى إلا في(عدد)نقاط الزيت والعسل وأن يكون الماء يوما بعد يوم أقل سخونة.. فمضت الأيام على ما فيها من شده وهمّ وغمّ لازمني؛وكدت أظنّ أن صاحبي مفارق الحياة لا محالة ..فجئته بعد أسبوع وحدثته الخبر فبشرني؛

وزاد علي أن أخلط العصير بالماء وأسقيه إياه في الظهيرة..

ففعلت.. فما كان من صاحبي إلا أنّه أصبح لا يتحرك من فراشه!

ويتقيأ بين ساعة وساعة

وما كاد يعرف الليل من النهار وما استجد عليه شيئا سوى أنه أصبح يشرب الماء بكثرة.. وهذه علامة حسنه مبشرة.

 ثم في الأسبوع الثاني أصبحت أسلق له الخضار في ماء لا يضاف عليها شيئا فأعطيه ماؤها.. وهكذا ظل شهرا كاملا لا يتغذى إلا على الماء والعسل وزيت الزيتون والعصير وماء الخضار واللبن يأخذها بمقدار ووقت معين.

وما كانت الآمهُ إلا في ازدياد من تعبه واعتلاله وزاد عليها كثرة نومه ولكن عزائي أن خلاياه تتجدد وتزدهر فأصبّره وأذكّره بالله وسنة الحياة أن بعد كل شدة فرج وأن كل بلاء دون النار عافية ..

وبعد مضي شهر كامل سمح له العطار بتناول الخبز والخضار وأن يظلّ على غذاءه الأول ويمنع نفسه عن مادونه؛ وهكذا.. شيئا فشيئا أصبح (يجاهد) نفسه ألا يأكل شيئا غير ما وصف له بعد أن كان (يجبر) نفسه على تناولها؛ فانفتحت شهيته وحسن جسمه ثم بالتدرج أصبح يأكل مما شاء وقت ما يشاء فأصبح قوي البُنية شديد القوة لا يكاد من لا يعرف قصته أن يصدق ما كان عليه من سالف حاله.. وهذه هي سنة التدرج في العلاج والتغيير وفي غيره من إصلاح الأحوال فالكثير المفاجئ مميت.. وعلق على ذلك طبيب البصرة بأن التطبب يجب يأتي بالتدرج والتمهيد فالمباغته مميته.. وأن تمزج الأشياء ببعضها بقدر معين بوقت محدد ويترك الجسم يتخلص من جميع أدرانه وأمراضه ثم يستعيد حيويته ونشاطه

ثم يأخذ فترة راحة تنفتح فيها شيهة الإنسان لكن ينبغي أن يضل على سنة التدرج لينمو نموا طبيعيا هادئا فيكبر ويتوهج

 النهاية :

"أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل".

_ القصة خيالية والغاية منها ما استفدته الآن!

مارية