" لم تكن الحياة بمصر سهلة ، ألأننا أغراب أم لأن مصر لا تناسب أهلها حتى تناسبنا ؟
تعرفت علي جيران كُثر في الحي الذي نسكن به منهم شابين يقربان من سني ، مصطفي و علي .
أحدهما كان خريجا للهندسة و الأخر كان " مبلط سيراميك " كما قال لي . متناقضان هما و متكاملان .
مصطفي ناقم علي كل شئ ، عمله و بلده و حكومته و حياته كلها . يعمل نهارًا ليتفرغ ظهرًا للبحث عن وسيلة للسفر خارج مصر و ليلا ليتجاذب الحديث و اللعب مع عليّ في مقهى الحي علي خلفية من الأخبار و برامج التوك شو السخيفة كما يصفها .
أما عليّ ؛ فهو الرضا ذاته ، متزوج منذ ثلاث سنوات ، يسكن مع زوجته و والدته و أخيه الأصغر في شقة بسيطة ، لم يكمل تعليمه بعد وفاة والده ، تفرغ للعمل لينفق علي أسرته ، قصته بسيطة كتلك القصص التي نسمعها كل يوم و نراها في مئات الأفلام . تنقل بين الأعمال حتى استقر في عمله هذا ، و اكتسب خبرة فيه حتى صار " أسطي " كبير و له من الصبيان من يعمل تحت يديه . حياته هادئة ، يري بلده بخير و هي الأفضل دائمًا . " يا عّم صدقني البلد دي أحسن من غيرها و مش هتلاقي غيرها يحن عليك ، الغربة وحشة أوي يا درش " .
يرددها دائما في كل ليلة . اثنين و أنا ثالثهما ، استمع صامتًا لكلامهما و كثيرا ما أفر بخيالي بعيدا عن تلك الأحاديث .
" البلد دي أحسن من غيرها " ، ألم تكن حلب أجمل منها ؟
حين استقر بنا المقام في مصر بحثت عن عمل ، لا أدرى ماذا أو كيف أعمل !
تنوعت أيامي بين البحث عن عمل يمكنني الاقتيات عليه و بين التجوال في شوارع تلك المدينة الغارقة تحت أقدام ساكنيها .
ثم رأيتها ، لتوهها خارجةً من ذلك المحل ، تلوح بيدها لأحد ما بداخله . كنت علي الجانب المقابل للطريق حين رأيتها لأجدني فجأة أعبر بلا اكتراث لأكون بقربها .
لا أعلم من أين أتتني تلك الجرأة لأقترب منها بهذا القدر الذي جعلها تتوقف فجأة حين تراني أمامها .
تلاقت عينانا ثم اتجهت كل منهما للأرض ، ازدادت جرأتي درجة لأجدني أقول : مرحباً ! .
- مرحبًا !
- هل تذكرينني ؟
- امّم ، نعم ، أذكرك ، كيف حالك ؟ كيف أسرتك ؟
- بخير ، كيف والدتك ؟
- في حال جيدة ، شكرًا لك !
- ....
ثم انقطع الحديث فجأة كما بدأ فجأة ، لحظات مرتّ كساعات طويلة ، لتتقافز جرأتي مرةً أخري لأقول : هل أنتِ عائدة لمنزلك ؟
- نعم .
- هل يمكنني إيصالك ؟
- لا ، لا داعٍ لذلك ، البيت ليس ببعيد !
- أرجوكِ ، اسمحي لي !
- حسنًا ، تفضل .
لم ينقطع الحديث تلك المرة ، بل تجاذبنا طرفاه سَوِيًّا حتى لا يضيع . بدا لي أن كلانا لا يريد أن يصمت و أن الطريق لا يريد أن ينتهي !
وصلنا إليّ بيتها ، رحبت بي أمها كثيرا ، بدت لي أنها زادت من العمر سنينًا منذ رأيتها في حلب !
شكرتني علي موافقتها ، و أوصتني بالسلام لأسرتي .
عدتُ لحيينا سعيدًا علي غير عادتي ، فمنذ بدأت البحث عن عملٍ مناسب و أنا أعود حاملاً فقط خفيّ حُنين فوق رأسي !
سعيدًا كما لو كانت السماء تمطرُ فرحًا ، سعيدًا كما لو كانت حلب آمنة .
لكنْ تلك السعادة ما كان لها أن تدوم ؛ حين التقيتُ بشباب الحي ليلًا لم أرَ مصطفي بينهم !
سألتهم فأجابوا : اختفي ..
