5. الكهف مقابل الرقيم /
توقفت مليا عند قوله تعالى ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا)، وتساءلت - كما تساءل آخرون - أليس أولئك الفتية هم أصحاب الكهف؟ وهم أيضا( أنفسهم) أصحاب الرقيم؟
لماذا لم يكتف القرآن الكريم - وهو النص البليغ المبين - بالإشارة إلى واحدة من هاتين الصفتين؟
كأن يقول / أصحاب ( الكهف) فقط أو أصحاب ( الرقيم) فقط لأن المقصود هنا - كما هو واضح من سياق الآيات الكريمة - فئة واحدة فقط، وليس لفئتين مختلفتين.
يبدو لي - والله أعلم وأحكم - أن القرآن الكريم يشير لمرحلتين زمنيتين مختلفتين في حياة أولئك الفتية أنفسهم، وكل مرحلة فيها معجزة من نوع ما.
الأولى / مرحلة ( الكهف)، وهي مرحلة غياب.
الثانية / مرحلة ( الرقيم) وهي مرحلة حضور
وإن شئت قلت /
نوم مقابل يقظة.
فقد مقابل عثور.
غيب مقابل شهادة.
موت مقابل حياة( رمزيا)
سرية مقابل علانية.
جهل مقابل علم.
ظن مقابل يقين.
تخفي مقابل تجلي.
سكون مقابل حركة.
إن دخول أولئك الفتية ذلك الكهف، ومكثهم فيه ثلاثمائة وتسعة أعوام معجزة ربانية وأي معجزة!
كما إن العثور عليهم، ووضع رقيم ( كتابة / لوح / نقش ) على كهفهم ينبئ عن خبرهم، أو حتى ملاحظة ذلك ( الرقيم ) على ذلك الكهف من قبل المحيطين بهم، معجزة أخرى!
الرقيم علامة / إشارة / دلالة عليهم، ومن يدري، فلربما لولاه ما كانت قصتهم لتعلم، ويتعلم منها؟
في مرحلة (الكهف) اختفى الفتية، بينما في / مع مرحلة (الرقيم) ظهروا وبانوا للعيان.
في المرحلة الأولى اخفوا دينهم عن قومهم، وفي المرحلة الثانية ظهر وعلم.
ثم أنه ما كان يمكن لبقائهم نوما في كهفهم طيلة تلك السنين أن يكون آية ومعجزة لقومهم، ولمن بعدهم، لو لم يعثر عليهم، ( وكذلك أعثرنا عليهم)، في بدء مرحلة( الرقيم).
إن قرار اتخاذ ( مسجد) عليهم من قبل الذين غلبوا على أمرهم، يأتي امتدادا لمرحلة( الرقيم ) تلك.
لقد كانوا في رحم ( الكهف) وظلمته، لينتقلوا بعد ذلك إلى( فم ) الكتابة والاخبار، و( لسان) الذيوع والانتشار.
أليس الرحم( ظلمة) تحيط بالجنين، الذي يستقبل عند ومع خروجه من ذلك الرحم، لحظة الولادة أول( النور) ؟
وثمة بعد آخر ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار هنا، ألا وهو أن كل دعوة حق لابد لها أول أمرها أن تبدأ بمرحلة( الكهف)؛ رمز السرية والخفاء، حتى يأذن لها الله، وتتيسر الظروف لتعلن عن وجودها، وتطلب من الناس اتباعها من منطلق ( استعينوا على حوائجكم بالكتمان ).
ولنا في دعوته عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة، تلك الدعوة التي بدأت ب / في ( كهف) غار حراء، و ( ياأيها المدثر) و ( ياأيها المزمل )، وباجتماعات سرية أو شبه سرية في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وبعد فترة من الزمن، انتقلت إلى مرحلة ( الرقيم)؛ ( فأصدع بما تؤمر، وأعرض عن الجاهلين)، و ( إنا كفيناك المستهزئين)، ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فمابلغت رسالته، والله يعصمك من الناس ).
ومقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند إسلامه (من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، فليتبعني خلف هذا الوادي).
كل ذلك وكثير غيره كان في مرحلة ( الرقيم ).
أصحاب( الكهف) كانوا فتية صغارا غير معروفين أو مؤثرين، ولكنهم في مرحلة( الرقيم)، أضحوا رموزا وعظماء يشار لهم بالبنان، وتشيد لهم الصروح الشامخة.
لذا فعلى أي داعية للخير والحق والتغيير نحو الإيجابية والقيم الحقة، أن لايستعجل النتائج، وأن لايحرق المراحل أو يقفز فوقها.
إن قصة أولئك الفتية معجزة في مرحلة ( الكهف)، وفي مرحلة( الرقيم) أيضا، وهي أكثر اعجازا عندما يتم الجمع بين المرحلتين.
هذا والله أعلم وأحكم.