من وحي سورة الكهف 9

قتل الغلام! السؤال والدرس ج 2

خلف سرحان القرشي

...................................

نأتي اليوم للحديث عن الدرس / الدروس التي يمكن استفادتها وتعلمها من حادثة (قتل الغلام).

قد يتبادر للذهن أن الدرس متعلق فقط بنبي الله موسى عليه السلام كونه هو طَالِبُ العِلم من المُعَلِم / الرجل الصالح / الخضر عليه السلام.

ولكن - والله أعلم - أن بوسع أي شخص أن يتعلم درساً أو أكثر من ذلك الحدث اللافت للاهتمام.

ومن تلك الدروس قتل التعلق بأي شخص/ شيء يصد عن سبيل الله عز وجل، ووحدانيته وعبادته.

من رحمة الله بوالِدَيِّ الغلام أنه سبحانه وتعالى أمَر الخضر ليقتله؛ لكي لايرهقهما طغيانا وكفرا.

ومعروف عادةً أن تعلق الأبوين بأبنائهما هو من أعلى درجات التعلق، وعندما تقضي الإرادةُ الإلهيةُ بقتل هذا الغلام حفاظاً وحمايةً للدين، فالمسألةُ تستحق التوقف، وتستدعي مزيداً من التأمل.

وعندما نقول بــ (قتل التعلق)، فإننا لانعني أن يقوم أي والدٍ بقتل ولده، أو أي ولدٍ بقتل والَدِهِ مظنةَ أن التعلق به يصد عن سبيل الله، كما يفعل الدواعش، ومن هم على شاكلتهم في الضلال، شرعةً ومنهاجاً.

الخضر في الأعم والأغلب لن يأتي ثانية بعلم لَدُنِيٍ، ويقوم بقتل أي غلام أو شخص أصالة، أو وكالة عن فلان أو علان، كما أنه لن يُبْلِغْ أحدا بضرورة قتل أحدٍ لذات الغرض!

الشرائع السماوية كلها تعظم حرمة النفس الإنسانية، ولا تبيح سفك دمها إلا بحق بين صريح وواضح محدد ومعلوم سلفا، يحكم به قاض مؤتمن عالم بأحكام الشريعة، أو أن يكون قتلها دفعا لاعتداء لم يكن بالامكان تلافيه، أو نحو من ذلك.

وطالما أن الحالة هذه، فكيف لنا أن نقتل التعلق؟

قتل التعلق يكون بقتله في سويداء القلب، وحنايا الروح، وجوانح المشاعر وليس غير، انطلاقا من قوله تعالى (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ.... ).

وقوله تعالى:

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عظيم).

ومن قوله تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ ..).

قتل التعلق أيضا محدودٌ، ومقيدٌ بالتيقن من أن بقاء ذلك التعلق مفضٍ، ومؤدٍ لامحالةَ إلى صدً وكفرٍ وإعراضٍ عن سلم الهداية والرشاد الذي أعلى درجاته التوحيد.

والأنبياء عليهم السلام، لم يكونوا بدعاً من الناس في الابتلاء بالتعلق، فهاهو سيدنا نوح يتعرض لاختبار رباني:

(وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ).

فالله حذر نوحا عليه السلام من التعلق بابنه الكافر، ونوح تاب وأناب.

وسيدنا إبراهيم، وابنه إسماعيل عليهما السلام عاشا هذا التحدي الإيماني العسير، ولكنهما بعون الله تعالى، ثم بقوة إيمانهما تجاوزاه.

قال تعالى:

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

كاد تعلق سيدنا نوح عليه السلام بابنه، أن يضر به، بينما تحرر سيدنا إبراهيم عليه السلام وابنه من التعلق، عاد عليهما بخير عظيم.

وتعلق يعقوب عليه السلام بابنه يوسف مشهور ومعروف.

والتعلق المذموم والمنهي عنه لا يقتصر فقط على تعلق الآباء والأمهات بأبنائهم أو العكس، بل يمتد لصور شتى ومنها المال والجاه والمنصب والمكانة الاجتماعية ونحو ذلك.

قال تعالى:

(قل إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين).

وفي كل زمان، و زماننا هذا بالذات - فيما نعلم - كثر التعلق بعروض الدنيا؛ ضرورات وكماليات، وكثر بذلك الإعراض عن سبيل الله وهديه، وبالتالي ظهر الفساد في البر والبحر.

فكم من مسؤول يرتشي، وكم من إمرأة تبيع عرضها مقابل عرض زائل من عروض هذه الحياة الفانية.

ولو تم الإجهاز على هذا التعلق مسبقا، لما آلت الأمور إلى كل هذه المآلات السيئة.

(ياأيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ ).

سورة الكهف العظيمة، تتحدث عن فتن مختلفة، ومن تلك الفتن فتنة(التعلق) على إطلاقها، وتلك لعمري فتنة وأي فتنة!

ولعله من نافلة القول الإشارة إلى أن علماء النفس وأطباءه، وكثير من رواد التنمية البشرية، والبارعين في فنون التطوير الذاتي، يحذرون من كثير من أشكال التعلق، ويصفونها ب (المَرَضِيَّةِ)، ويؤكدون على حقيقة القول (أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما).

ولذا لم يكن عجبا، أن قراءة هذه السورة أو بعض آياتها يقي المسلم من فتن عظيمة حاضرة وقادمة، والتعلق واحدة من تلك الفتن، بل قد يكون قاسما مشتركا فيها جميعا.

كفار قريش كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية، ولكنهم رفضوا توحيد الألوهية، وهم قاب قوسين أو أدنى منه، وما ذلك إلا لأنه ينسف مصالح لهم، تعلقت بها قلوبهم، ومنها أموال التجارة والسياحة الدينية - إن صح التعبير - التي كانت تدر لهم دخلا وصيتا، وتمنحهم إيلافا يؤمن قوافلهم في رحلتي الشتاء والصيف.

إن مصالحهم تلك، وتعلعقهم بها جعلهم يسمحون لكل قبيلة أو مجموعة من الناس وضع أصنامهم وأوثانهم بجوار الكعبة المشرفة بيت الله الحرام.

ثم إن اتباعهم ودخولهم في الدين الإسلامي- فيما لو حدث-، سوف يطوح بمعايير السيادة والعزة المغلوطة التي يتباهون بها أيما مباهاة، ومنها أصالة الحسب والنسب، وكثرة العيال والمال، والتي يتعلقون بها ويقدسونها كثيرا. كما أن قيم الإسلام الحق - فيما لو اتبعوه - يجعل (الملأ) منهم على نفس الدرجة الاجتماعية - إن لم يكن أدنى - مع بلال بن رباح الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر وأمه وأبيه وغيرهم كثير، حيث ( أكرمكم عند الله أتقاكم).

وهكذا نرى خطورة التعلق الفاسد، كيف يصد عن الحق المبين.

ونختم هذا المقال بدعوة القارئ الكريم للتأمل في آية أخرى من آيات هذه السورة، تتسق وموضوع التعلق، وهي قوله تعالى موجها نبيه عليه الصلاة والسلام، والأمة من بعده:

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا).

نسأل الله السلامة والعافية والثبات على الرشد.