من وحي سورة الكهف 10 (فتية / غلام / غلامان)

خلف سرحان القرشي

.....................................

لعل مما يسترعي انتباه المتأمل في آيات هذه السورة العظيمة وجود كلمات (فتية / غلام / غلامان)، وهذه المفردات رغم تعدد معانيها، إلا إن سياقها هنا يشير إلى مرحلة عمرية هي مرحلة الشباب، وإن شئنا الدقة فهي مرحلة بدء الشباب، والسؤال لماذا تطرقت السورة الكريمة في ثلاث مواضع مختلفة لهذه المرحلة؟

إن مرحلة الشباب، هي ربيع العمر، وزهرة الحياة، ولذلك هي مرحلة مهمة في حياة الإنسان، وبالتالي في مسيرة الأمة، وقد وصفها ببلاغة ذات زمن الكاتب "فتحي يكن" رحمه الله بقوله:

(في الحقيقة إن الشباب هو سن الهمم المتوثبة، والدماء الفائرة والآمال العريضة... سن العطاء والبذل والفداء.. سن التلقي والتأثر والانفعال).

إن في صلاح الشباب - لاسيما - في أول نبته - خير عظيم، وفي فساده شر مقيم.

(إذ أوى الفتية إلى الكهف، فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا).... الخ الآيات الكريمة.

الفتية الذين فروا بدينهم ووحدانية خالقهم إلى الكهف كانوا سببا - والله أعلم وأحكم - بفضل الله في تحول مدينتهم بل دولتهم فيما بعد إلى التوحيد.

تلك المدينة / الدولة التي اضطرتهم مرغمين للفرار إلى الكهف نحسب أنها استقبلتهم استقبال الأبطال الفاتحين المظفرين، عندما أعثر الله عليهم، وعلم الناس بأمرهم. أما بعد موتهم فقد أقامت على أضرحتهم مسجدا تكريما لشأنهم، وتقديرا لجهادهم، وإعلاء لذكراهم وفقا للتقاليد السائدة آنذاك.

البذرة الأولى (بذرة الإيمان) كانوا هم من زرعها، وإن شئت فقل إن محنتهم الإيمانية العظيمة - التي اضطرتهم للفرار - هي الماء الأول الذي سقيت به تلك البذرة، وهل ينسى الورد أول ماء سقي به؟ أما ثقتهم بربهم، ونواياهم الطيبة فكانت بمثابة الشمس والهواء والغذاء لتلك النبتة.

من يدري؟ ربما بعد فرارهم، تساءل أهلهم وذويهم ومحبيهم عن أمرهم، ولماذا رحلوا، وأين ذهبوا، وهل مازالوا أحياء أم أنهم في عداد الأموات، وإذا كانوا أحياء، فمتى سيعودون؟ وماذا سوف يكون مصيرهم؟

ربما - ولا نجزم - ولكن عطفا على الطبيعة البشرية في كل زمان ومكان، نظن أنه تم طرح وتداول أسئلة من هذا القبيل، وفي البدء كان السؤال!

ويحتمل أن تلك الأسئلة صعدت وأثارت قضايا الإيمان والكفر / التوحيد والوثنية / الحياة والموت، ولو على نطاق ضيق، وبشكل سري، وعلى خوف من رؤوس الوثنية، وملأ الكفر، وأئمة الفساد.

ولعل الإيمان - بعد كل تلك الأسئلة - بدأ يسكن شيئا فشيئا في نفوس آخرين من أهل تلك المدينة، وبدأ يأوي إليها كما تأوي الحية إلى جحرها، حتى غدت مملكة إيمانية خالصة بعد ثلاث مئة سنة، ويمكن قبل ذلك بكثير.

تلك النبتة - ممثلة في أولئك الفتية - أينعت وازهرت وأثمرت، وتواصلت الدورة بأمر الله، فالنبتة لم تعد وحيدة، بل تكاثرت، والبذور ازدادت، وأمتلات المدينة عن بكرة أبيها بأشجار الإيمان المزهرة الطيبة، وارفة الظلال، عظيمة الأفياء.

وفي هذا درس للبشرية أن القليل كثير، وأن الفكرة في حد ذاتها ذات جذب بأمر ربها، وسوف تؤتي أكلها ولو بعد حين.

ألم يكن سيدنا ابراهيم عليه السلام "أبو الأنبياء" فتى عندما عارض أباه ومجتمعه في عبادة الأصنام، وقام بتكسيرها في تحد صارخ لهم متحملا في ذلك العذاب، حتى لو وصل إلى الإلقاء حيا في النار؟!

(قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم).

لذلك لاغرابة ولاعجب في أن نجد أصحاب الكهف؛ بضعة فتيان يؤمنون حد الاستشهاد بقضية حق مقدسة، يكونون بأمر الله سببا لتحول دولة بأكملها من الوثنية إلى التوحيد بما فيهم ملك/رئيس تلك الدولة، ورجالاتها الغالبين على أمرها.

أليس هذا هو واقع وحال الأنبياء، والرسل، والمصلحين، ودعاة الحق والخير والهدى عبر التاريخ.

في البدايات نجد (وما آمن معه إلا قليل) حاضرة بقوة، وبعد ذلك نجد (إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) واقعا حيا، متجسدا على الأرض، متجليا في أرجاء المعمورة.

وفي البداية أيضا نجد قوله صلى الله عليه وسلم مواسيا ومعزيا بصدق ويقين: (صبرا آل ياسر، إن موعدكم الجنة)، وفي النهاية نجد أبو سفيان رضي الله عنه - مندهشا - يوم فتح مكة، عندما رأى أعداد المسلمين العظيمة، يقول للعباس بن عبد المطلب: (لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما!).

وليته -رضي الله عنه- لم يقل "ملك"، فما رأه آنذاك يتجاوز معايير الملك البشري إلى (وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين).

ولعل من الدروس العظيمة التي يمكن أن نستخلصها ضرورة الاهتمام بأمر الشباب، وحسن إعدادهم، ليكونوا معاول بناء حضارة أصلها هدي القرآن الكريم وهداه، و محورها الإنسان في كل زمان ومكان، وغايتها سعادة الدارين.

ثم أن (الفتية / الشباب) في كل زمان ومكان لهم التأثير الأكبر عندما يحسن إعدادهم، لأنهم عادة مايكونوا أقرب للفطرة السليمة الأولى التي فطر الله الناس عليها، لم تدنسهم الأهواء، ولم يعبث بعقولهم وقلوبهم بريق كثير من "الايديولوجيات" الزائف، الذي ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب.

يقول الشاعر :

إن الغُصُونَ إِذا قَوَّمْتَها اعتدلْت /

ولا يلينُ إِذا قَوَّمْتَهُ الخَشَبُ

ولنعلم أيضا أن ترك الشباب في سنيه الأول تحديدا دونما توجيه حكيم، وتربية قيمية، يجعل منهم وقودا لمشاريع شيطانية، تريد أن تهلك الحرث والنسل، وتمسك بالسلطة ومقدرات الأمة تحت مسميات خادعة يغني التلميح بها عن التصريح، ويثبته واقع كثير من التنظيمات والأحزاب قديما وحديثا.

في سورة الكهف نفسها نجد أمر الله عز وجل للرسول عليه الصلاة والسلام بأن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).

وذلك لعدة مقاصد لانزعم أننا نستطيع الإحاطة بها يقينا، ولعل منها - والله أعلم - أن من بين أولئك "فتية" يحتاجون للتوجيه النبوي والتعليم الرباني، لأنهم هم المناط بهم صناعة الوعي، وتغيير المجتمع إلى مايريده الله عز وجل، الأمر الذي ليس مناطا بغيرهم ممن تمنى ورغب في هدايتهم عليه الصلاة والسلام ذات لحظة من الملأ القرشي، الذين أغفل الله قلوبهم عن الذكر واتبعوا أهواءهم.

في الأسبوع القادم إن شاء الله، نواصل الحديث عن هذه القضية تقاطعا وتكاملا مع مفردتي "غلام" و"غلامين".

نسأل الله السداد والتوفيق، وأن يعلمنا ماينفعنا، وينفعنا بما علمنا، إنه وحده العالم العليم المعلم سبحانه وتعالى.

.....................................