والقرآن نزل يتحدى العرب فى اللغة والبلاغة .. ولكن لأنه دين للناس جميعاً .. فلابد أن يتحدى غير

العرب فيما نبغوا فيه .. ولذلك نزل متحدياً لغير العرب وقت نزوله .. فقد حدثت حرب بين الروم والفرس وقت نزول القرآن .. وكانت الروم والفرس يمثلان فى عصرنا الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي .. كانا اعظم واقوى دولتين فى ذلك العصر .. وحدثت الحرب بينهما وانهزم الروم .. واذا بالقرآن ينزل بقوله تعالى :

الم (!)غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4) سورة الروم

لو ان هذا القرآن من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فما الذى يجعله يدخل فى قضية كهذه ؟ او يطلب أحد منه ان يدخل فيها .. وكيف يغامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كلام متعبد بتلاوته إلى يوم القيامة ولا يتغير ولا يتبدل باعلان نتيجة معركة ستحدث بعد سنين؟ .. وماذا كان يمكن ان يحدث لقضية الدين كله لو ان الحرب حدثت وانتصر الفرس مرة اخرى .. او ان الحرب لم تحدث وتوصل الطرفان إلى صلح ؟ انها كانت ستضيع قضية الدين كله .. ولكن لأن الله سبحانه وتعالى هو القائل وهو الفاعل جاءت هذه الآية كمعجزة لغير العرب وقت نزول القرآن ..وحدثت المعركة فعلا وانتصر فيها الروم كما اخبر القرآن الكريم .

ولكن القرآن لم ينزل معجزة لفترة محدودة .. بل هو معجزة حتى قيام الساعة .. والقرآن هو كلام الله ، والكون هو خلق الله .. ولذلك جاء القرآن يعطي اعجازاً لكل جيل فيما نبغوا فيه .. اذا اخذنا العلوم الحديثة التى اكتشفت فى القرن العشرين واصبحت حقائق علمية .. نجد ان القرآن الكريم قد اشار اليها باعجاز مذهل .. بحيث ان اللفظ لا يتصادم مع العقول وقت نزول القرآن الكريم .. ولا يتصادم معها بعد تقدم العلم واكتشاف آيات الله فى الأرض .. ولا يقدر على هذا الأعجاز المذهل الا الله سبحانه وتعالى .. اقرأ مثلاً قول الحق تبارك سبحانه وتعالى:

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(7) سورة ق

والمد معناه البسط .. وعندما نزل القرآن الكريم بقوله تعالى : "والأرض مددناها " .. لم يكن هذا يمثل مشكلة .. للعقول التى عاصرها نزول القرآن الكريم فالناس ترى ان الأرض ممدودة .. والقرآن الكريم يقول :"والأرض مددناها".. وتقدم العلم وعرف الناس ان الأرض كروية .. وانطلق الإنسان إلى الفضاء ورأى الأرض على هيئة كرة .. هنا احست بعض العقول بأن هناك تصادمات بين القرآن الكريم والعلم .. نقول لهم أقال الله سبحانه وتعالى أي أرض تلك المبسوطة؟.. لم يقل ولكنه قال الأرض على إطلاقها .. أى كل مكان على الأرض ترى فيه الأرض أمامك مبسوطة.

إذا نزلت القطب الشمالى تراها مبسوطة .. وإذا كنت فى القطب الجنوبى تراها مبسوطة .. وعند خط الإستواء تراها مبسوطة .. وإذا سرت من نقطة على الأرض وظللت تسير إلى هذه النقطة فالأرض أمامك مبسوطة .. ولا يمكن أن يحدث هذا أبداً إلا إذا كانت الأرض كروية .. فلو أن الأرض مثلثة أو مربعة أو مسدسة .. أو على أي شكل هندسي أخر .. لوصلت فيها إلى حافة ليس بعدها شىء .. ولكن لكي تكون الأرض مبسوطة أمامك فى أي مكان تسير فيه لا بد أن تكون على هيئة كرة.

هذا الإعجاز الذى يتفق مع قدرات العقول .. وقت نزول القرآن الكريم .. فإذا تقدم العلم ووصل إلى حقيقة لما يعتقده الناس .. تجد أن آيات القرآن تتفق مع الحقيقة العلمية إتفاقاً مذهلاً .. ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى .

ولو أن النبى صلى الله عليه وسلم تعرض لهذه الآيات الكونية تعرضاً لا يتناسب مع إستعدادات العقول وقت نزول القرآن .. فإنه ربما صرف العقول عن أساسيات الدين إلى جدل فى أسرار كون لا يستطيع العقل أن يستوعبها أو يفهمها .. ولكن الحق تبارك وتعالى ترك فى الكون أشياء لوثبات العقول فى العلم .. بحيث كلما تقدم العلم وجد خيطاً يربط بين آيات الله فى الكون وآياته فى القرآن الكريم ..ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر كونيات القرآن وقت نزوله لجمد القرآن ..لأنه لا أحد منا يستطيع أن يفسر بعد تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ..وبذلك يكون عطاء القرآن قد جمد..ولكن ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفسير أتاح الفرصة لعطاءات متجددة للقرآن الكريم إلى قيام الساعة .. وهكذا كان المنع هو عين العطاء .. وهذه معجزة أخرى من إعجاز القرآن الكريم

كلمة قرآن ساعة تسمعها تفهم أنه يقرأ .. قرآن مصدر قرأ مثل غفر غفراناً .. ولكن بعد نزول القرآن الكريم أصبح لفظ قرآن إسماً بكلام موحى به من الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقصد التحدي ..ويسميه الله تبارك وتعالى كتاب .. إذن هو قرآن إذا أخذنا أنه يقرأ .. وهو كتاب إذا أخذنا أنه يكتب .. والقراءة تستلزم حافظاً والكتابة لا تستلزم حافظاً .. فالإنسان حين يقرأ من كتاب ليس محتاجا إلى الحفظ، ولذلك فللقرآن وسيلتان من وسائل التلاوة: يحفظ فى الصدور ويسجل فى السطور .. بحيث تستطيع فى أي وقت أن تقرأ من الكتاب .

وحين بدأ تدوين القرآن الكريم كتابة كان لا يكتب منه آية إلا إذا كانت مكتوبة على جذوع النخل او الجلود .. أو أية وسيلة اخرى من وسائل الكتابة فى عصر نزول القرآن .. وزيادة على أن الآية تكون مكتوبة ..كان لا بد أن يكون هناك إثنان على الأقل من الصحابة الحافظين لها .. إلا آية واحدة لم توجد مكتوبة بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عند حافظ واحد فقط وكان القياس يقتضي ألا تكتب وهي قوله سبحانه وتعالى

" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) سورة الأحزاب

ولكن انظر إلى الخواطر الإيمانية يقذفها الحق سبحانه وتعالى فى قلوب المؤمنين ليكمل منهجه .. هذه الآية لم يوجد من يحفظها إلا خزيمة بن ثابت ، وعندما ثار الجدل حول تدوينها ، ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من شهد له خزيمة فحسبُه) رواه البخارى وأحمد والنسائى والترمذى وقال :حسن صحيح

عن زيد بن ثابت قال :لما نسخنا المصحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه الذى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين (من المؤمنين رجال ......)

وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد أعطى خزيمة بن ثابت وحده نصاب شهادة رجلين ... وهذه لها قصة ...أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبتاع فرساً من أعرابي .. فاستتبعه النبى صلى الله عليه وسلم ليعطيه ثمن الفرس .. فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي.. وأبطأ الأعرابي فطفق رجال (أي أخذ رجال ) يعترضون الأعرابي ليساوموه فى الفرس دون أن يعرفوا ان النبى صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه .. فنادى الأعرابي رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال :إن كنت مبتاعاً هذا الفرس وإلا بعته .. أي هل تريد شراء الفرس أو أبيعه ؟

فقال النبى صلى الله عليه وسلم :أوليس ابتعته منك ؟ ....فقال الأعرابي ما بعته (أي ما بعته لك ) ..فقال النبى صلى الله عليه وسلم :بل قد ابتعته منك ...فقال الأعرابي هلم شهيداً ..أي ائتني بشاهد..فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد أنك بايعته (أي بعته له).

وبعد أن انصرف الناس ..أقبل النبى صلى الله عليه وسلم على خزيمة...

فقال: بم تشهد؟ .. (اي كيف شهدت على هذا ) .. ولم تكن موجوداً وقت المبايعة بيني وبين الأعرابي؟ .فقال خزيمة: بتصديقك يا رسول الله ..(أي هل نصدقك فى كل ما تأتينا به من خبر السماء ونكذبك فى هذه؟..فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين .. فأخذت شهادته بشهادة رجلين وتم تدوين الآية .. وكان خزيمة يدعى ذو الشهادتين .. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادته بشهادتين . من سير أعلام النبلاء . الجزء الثانى . ص 486 وإسناده صحيح

إذا أردنا ان نعرف القرآن ..فإنه لا بد أن يخرج عن مقاييس البشر ..فالناس حين يعرفون الأشياء يقولون : حده كذا ..ورسمه كذا ..إلى اخره ..ولكن كى نعرف القرآن الكريم نقول أن القرآن هو ابتداء من قوله تعالى :

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ(1) الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) فاتحة الكتاب

إلى أن نصل إلى قوله

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1) مَلِكِ النَّاسِ(2) إِلَهِ النَّاسِ(3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ(6) سورة الناس

أي أنه من أول سورة الفاتحة ..إلى آخر سورة الناس .. على أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ..قبل أن نقرأ أية آية من القرآن الكريم ..كما علمنا الحق سبحانه وتعالى فى قوله :

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98) سورة النحل

لكن العلماء أرادوا التخفيف على الناس فى تعريف القرآن الكريم ..فقالوا هو كلام الله .. نزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بقصد التحدي والإعجاز ليبين للناس منهج الله . والقرآن يتفق مع المناهج التى سبقته ، ولكنه يضيف عليها ويصحح ما حذف منها لأنه موحى به من الله ..فالتوراة والإنجيل والزبور من الله .. ولكنها تحمل المنهج فقط .. أما القرآن الكريم .. فهو المنهج والمعجزة الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

التوراة كانت منهج موسى وكانت معجزته العصى .. والإنجيل منهج عيسى ومعجزاته إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ..إذن بالنسبة للرسل السابقين ..كانت المعجزة شيئ والمنهج شيء آخر، ولكن القرآن تميز أنه المنهج والمعجزة معاً .. ذلك أن المناهج التى أرسلها الله على الرسل السابقين أنزلها على نية تغيرها..

ولكن القرآن الكريم ..نزل على نية الثبات إلى يوم القيامة . ولذلك كان لا بد أن يؤيد المنهج بالمعجزة حتى يستطيع أي واحد من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول محمد رسول الله وتلك معجزاته ..ولكن معجزات الرسل السابقين حدثت وانتهت لأنها معجزات حسية ..من رآها آمن بها .. ومن لم يرها فهو غير مقصود بها .لأنها حدثت لتثبيت المؤمنين..الذين يتبعون الرسول .. فمعجزة عيسى عليه السلام لا يمكن أن تعود الآن من جديد..وعصى موسى التى شقت البحر لا يستطيع أتباع موسى أن يأتوا بها الآن ليقولوا هذه معجزته..

إذن فالرسل السابقون لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان لكل منهم منهج ومعجزة ولكن كليهما منفصل عن الأخر ..فالمنهج عين المعجزة حالة مفقودة فى الرسالات كلها .. ولكنها فى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أمر موجود يمكن أن يشار اليه فى أي وقت من الأوقات ..