أنا وأبي بدأنا الرحلة ذات يوما معا. هو وقتها كان في على باب الأربعين. وأنا على باب ثانيتي الأولى في هذه الحياة… وقتها كان يعرف تفاصيل تفاصيلي الصغيرة: البقع الداكنة على جسدي الصغير، مقاس حفاظتي، عاداتي في النوم والصراخ، أسهل الحلول لنيل رضاي فيتمتع هو وأمي بساعات نوم هادئة، نوع الحليب. يعرف كذلك حينما تبدأ أعراض التهاب الحلق المتكرر، أول سن ظهر، السن الذي حاولا جاهدين أن يعتدل بدلك لثتي كل يوم، محاولاتهم المتكررة لتعليمي كيف اعتمد على نفسي عندما أحتاج للحمام، متى أكذب، ومتى أخفي شيئا ما، متى أعود من المدرسة وقد ضربت وأنا أدعي العكس، الحلوى التي سرقتها من البقالة المجاورة عبثا وتمردا، حين تركت الصلاة منشغلا بالكرة وقلت له أني كنت في المسجد .. حين بدأت أشعر بضرورة الاستقلال وتفردي بآرائي وذاتي، أجادله فيما لا يستحق .. كنت أظن أنه لا يعرف ما هي دوافعي..
وهأنا أكبر .. ابني وبنتي يكبران أمامي، أعرف التفاصيل الصغيرة:
البقع الداكنة على جسديهما الصغيرين، مقاس حفاظتها، عاداتهما في النوم والصراخ، أسهل الحلول لنيل رضاهما فأتمتع وأمهما بساعات نوم هادئة، نوع الحليب. أعرف كذلك حينما يبدأ أحدهما بالمرض، محاولاتنا المتكررة لتعليمه كيف يعتمد على نفسه عندما يحتاج للحمام، متى يكذبان، ومتى يخفيان شيئا ما
أمشي في صالة البيت فتطأ رجلي على إحدى سمكات القرش الصغيرة، فأقول له: يا ابني كم مرة قلت لك خل الألعاب في غرفتك. كدت أسقط بسبب هذه السمكة! .. فأفهم تذمر أبي كل مرة تطأ قدمه على معكباتي الصغيرة فيقول: يا محمد الله يصلحك شيل هذي بغت تفقع رجلي.
أدخل مكتبي فأجد علامات التسلسل والعبث ببعض أوراقي وكتبي، فأنفعل وأهم بالتصرف بحماقة كما أفعل أحيانا، فأتذكر تذمر أبي حين كنت أتسلل إلى خزانته وأقلب أوراقه الجديدة والقديمة فضولا وعبثا. عبثي القديم على الغداء عندما أشبع بعد يوم عمل مرهق له، وعبثهما عندما نجلس على المائدة بعد يوم عمل مرهق لي.
“البطاطس والفشار” الذي لاينسى عبدالله أن يطلبني كل مرة أخرج فيها للصلاة، والبطاطس الذي كنت أطلب أبي كل مرة يخرج فيها للصلاة أو أخرج معه.. تفاصيل كثيرة ومتفرقة تعرض كل يوم .. أتحاشاها وأهرب منها خوفا من سطوة الحنين ومن مشاعر متفرقة.