غريب كيف تتغير اهتماماتنا مع مرور الزمن حتى يخيل إليك وأنت تراجع شريط ذكرياتك، أن حياتك هي مجموعة من الروايات المنفصلة بأبطال مختلفين دمجت في فيلم واحد.

كمثال  علاقتي بالقراءة التي اتخذت -ولا تزال تتخذ- صورًا مختلفة في كل مرحلة في حياتي. في صغري كنت أحب القراءة كثيراً. كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي و إذا سئلت عن هواياتي فهي بالتأكيد المطالعة والقراءة. كنت مولعةً بالقصص تحديدًا. بداية من قصص الحديقة الخضراء و سلاسل الألغاز كالمغامرين الخمسة -تختخ، لوزة، عاطف، نوسة ومحب- و الشياطين ال١٣ ثم بعدها انتقلت ككثير من أقراني لمرحلة قراءة إبداعات الدكتور نبيل فاروق. بدأت برجل المستحيل لكن ما لبثت أن يممت وجهي نحو ملف المستقبل، فمنذ صغري كنت أميل إلى كل ما له علاقة بالعلم والمستقبل. في معظم تلك الفترة كانت مجلة ماجد الضيف الاسبوعي الثابت. كل اسبوع تقوم امي باحضار نسخة من مجلة ماجد لي و نسختين من مجلة باسم لأخي و أختي الأكبرين. و لحكمة يعلمها الله لها قرر أخواي أن فارق السن يعطيهما الحق في  أن يقرءا مجلة ماجد خاصتي لكن ليس من حقي أن أقرأ مجلتيهم !!

لا شك لدي أن قراءتي كانت لديها أثر كيير في تكوين شخصيتي واهتماماتي. ما كان يعجبني في مجلة ماجد أنها كانت تحتوي على كم كبير من المعلومات العامة و في الوقت نفسه فيها رسائل كثيرة تتعلق بهويتنا العربية الإسلامية. شيء أحس أن الأجيال التالية تفتقده. كذلك احتوت كتابات د. نبيل فاروق على قدر عالي جداً من الفخر بالهوية العربية رغم تركيزها بالطبع على مصر وحب مصر وعظمة مصر و و و و الخ :)

لسبب ما في المرحلة المتوسطة توقفت عن قراءة مجلة ماجد و رغم اني كنت أقرأ كتباً أخرى ، لكنني متأكدة أن توقف ما كانت تمثله من إمداد إسبوعي لمواد القراءة كان بداية التدهور في علاقتي بالقراءة. 

مع بداية المرحلة الثانوية عادت أسرتي للاستقرار في بلدي الأم السودان. و في خضم التغييرات الكثيرة و عملية التأقلم على النظام التعليمي المختلف و أسلوب المعيشة الجديد - (الانفجار في كمية الالتزامات الاجتماعية يصل حد أن تنسى نفسك)- اتخذت القراءة أو بالأصح ايجاد مواد للقراءة مقعدا خلفيا في حياتي. و في ما عدا محاولات خجولة لتبادل الكتب مع زميلاتي ، لم يكن هناك الكثير.

ربما من مشاكلي الرئيسية مع القراءة أن الغالبية من أقراني غالباً ما يقرؤون نوعًا أمقته من الكتب: الروايات العربية !

نعم أنا أكره الروايات العربية. السبب الرئيسي أن غالب ما وقع في يدي من كتابات الأدباء الكبار كنجيب محفوظ أو إحسان عبد القدوس و غيرهم دائماً ما يحتوي على ما اعتبره تفاصيل مخلة بالآداب ولا تمثل مجتمعاتنا. بالطبع في صغري كنت أكثر حساسية لمثل هذا المحتوى. ورغم أني الآن أقدر القدرة البلاغية و الأسلوب القصصي الرائع لكثير من الكتاب، لكنني لا زلت اتجنب الروايات العربية. و كل محاولاتي وتجاربي تعود بنفس النتيجة.

المهم، فترة المرحلة الثانوية كانت بداية الانهيار الحقيقي في علاقتي بالقراءة. لكن الانقطاع شبه التام جاء في المرحلة الجامعية.في هذه المرحلة لم تنحسر فقط كمية المواد التي أقرأها بل اختلفت أيضًا. تناقص تدريجيًا شغفي بالقصص و الروايات و أصبحت أفضل المواد ذات الطابع العلمي. في الواقع وصلت إلى مرحلة أني لا أطيق قراءة الروايات أبدًا ! بعض من هذا التغيير جاء كنتيجة حتمية لبدء ادماني للانترنت. فقد أصبت كغيري في عصر المعلومات بنقص التركيز والانتباه كنتيجة للطريقة التي تعرض بها المعلومات في الشبكة العنكبوتية وسهولة الوصول إليها. لكن هذا موضوع لتدوينة أخرى.

استطيع القول أني الآن والحمدلله في بداية مشواري للعودة للقراءة -بما في ذلك الروايات- و من أكثر الأشياء التي تحفزني على الاستمرار، أني وجدت أنها تكسبني شيئا يذكر دائمًا كفائدة من الفوائد العظيمة للقراءة و هو Empathy أي "معرفة الغير" أو "التقمص العاطفي". و هي من أهم المهارات التي يحتاجها الأنسان للنجاح في الحياة و تحتاجها المجتمعات خصوصًا في الأوقات العصيبة كالتي تمر بها شعوبنا حاليًا. 

في الجزء الثاني من هذه التدوينة سأوضح ذلك بأمثلة من بعض الروايات العالمية مثل Huckleberry Finn لمارك تواين و Les Miserables لفكتور هوغو.