هي روح الروح..!
إن للموت هيبة وسطوة ؛ هيبة الموقف والحدث وسطوة على المشاعر والأفئدة فكان لزاماً أن يُزار أهل الميت ويُطبخ لهم طعام حتى تزول عنهم سطوة الصدمة وهذا الأمر ليس في فلسطين ..!
الأمر مختلف برمّته في تلك البقعة الطاهرة ؛ الموت زائر معهود ، مُرحّب به على موائد الكرام ؛ فلا خوف منه ولا هيبة وكيف لا ؟! وإنها تكون للغريب المجهول وهو ليس بغريب !
يقرعون بابه ولا يقرع هو باباهم يباغتونه في ساحات الوغى متهيباً من جرأتهم وإقدامهم ؛ حائرا ما يصنع بقوم لعبة صغارهم مُحاكاة مشاهد الجنائز . ..!
يتقابلون وجهاً لوجه في الساحات ؛ فَيَتيه بين نشامة الشباب وقد تلبّس بها الصغار دون العاشرة ، وعزّ الشباب قد تسربل به ابن الستين ؛ أما الشباب فتغشى عينه من نور عنفوانهم وتوقّد قلوبهم .
اثنان وأربعون يوما والموت لا يبرح غزة ولا يفارقها ؛ كأنه أقام لنفسه خيمة وسط الصغار يتقطفهم ، يُسرع بأرواحهم -التي مازالت تحمل دفء آخر نفس - إلى يد جدّهم إبراهيم وجدّتهم سارة ،وكأنه يقول مكان الصغار بيت جدّهم ودفء قلب جدتهم .
وفي زاوية ضيقة ؛ تضيق بكل شئ إلا بقلب رجل خمسيني غزا الشيب لحيته ، حتى إذا اكتفى من هموم الولد وسلّمهم لمعترك الحياة جاءته ريحانة غضة نقية ، أزهرت بساتين عمره فعاد بين يديها عشروني يبادلها غزل الشباب وتبادله براءة الطفولة ، يقول : " "هي أول واحدة بتجيني !!"" تأتيه تدفن وجهها في لحيته فيدغدغها بها تشده منها غاضبة ويتصنّع هو الألم ليرى نظراتها قد تغلفت بالحنان كأنها أم صغيرة تخاف على أبيها ..!
أربعة أعوام يتقلب فيها بين نعيم براءتها فما يزيدها ذلك إلا تدللا ويزيده هو رقة طبعٍ كان يجهله حتى جائت .
أربعة أعوام يصنع لها ضفيرتين معقوفتين أو -كما تقول طفلتي ( قطتين يا ماما ) - وتجلس في حضنه فكأنّما وضع الكون بين جنبيه ؛ حتى ذلك الصباح قد صنع لها الضفيرتين!
أربعة أعوام واليوم يحملها بنفس ضفيرتيها وحلقة الشعر الوردية التي اشتراها لها وربّما من أجل تلك الحلقة قد أجهد نفسه ليالي حتى يجمع ثمنها لصغيرته اليوم يحملها بنفس كل شئ إلا أن الدفء قد غاب عن وجنتيها !
يفتح عينيها علّه يبحث عن وميض حياة ربّما تاه عن الطبيب ويعرفه هو بقلب الجد ؛ يّقبل عيناها وبؤبؤها علّها ترد القبلة ببسمة من ثغرها البرّاق فلا تردها والثغر بارد !
يشمها ويضمها ولأول مرة لا ترد الضمّة بضّمة أكبر منها فيختبئ أكثر وأكثر هناك ولا ترد !
يلحس وجهها ، وينفث أنفاسه الساخنة على صفحات وجهها المتبلّدة يتلمّس دفئا كاذبا ولا مجيب !
يمُدّون الكفن أمامه ويبتسم وكأنه يقول كان لصغيرتي دوما مكانا دافئا بين صدري وردائي..
وقبل أن يُسلّمها لهم كراهة أخذ يُعرّفها لهم وكأنه يقول : شُغلت بمحبوبتي عنكم : " هي بتكون روح الروح "!!