ضمن الأسئلة الجوهرية التي تتعلق بتاريخ العالم العربي وحضارته قبل ظهور الإسلام: كيف كان واقع حالهم ومآلهم؟ هل كانوا بعيدين كل البعد عن الحضارة بمعناها ومبناها، بمعنى أنها كانت صحراء جرداء قاحلة أم أنها كانت عامرة وزاهرة في شتى المجالات، من تجارة وزراعة، بناء وإعمار، كتابة وقراءة، اختلاط حضارات وآراء، وتعدد أديان ومذاهب؟ ربما اهتم المستشرقون والرحالة الأجانب، من غير العرب، بهذا التاريخ، بأكثر مما تنادى له العرب أنفسهم، وعبر قراءات متعمقة عديدة يكاد المرء يخلص إلى نتيجة مذهلة، وهي أن جزيرة العرب وما نحوها تشهد بأن هناك حضارات كبيرة قامت بها، وشعوب مبدعة تقاطع إنتاجها الإنساني فوقها وعلى أراضيها. لقد كانت جزيرة العرب مهداً للحضارات وموطن للفلاسفة والأنبياء والرسالات وصناع الأبجدية والكتابة والترقيم، وفي تلك الرقعة الجغرافية من الأرض سن أول قانون وضعه الإنسان، وقد ظلت رمالها وجبالها، خيامها وقدورها، شعراؤها وآدابها مصادر إلهام للشعراء الأقدمين، ولعل السؤال هو: ما الذي جرى وأدى إلى انقطاع الوصل بين تلك الحقبة التاريخية الحضارية العربية، وما بعد ظهور الإسلام؟ تزوير التاريخ يبدو أن بعض العرب وطوال التاريخ القديم كانوا يميلون إلى فكرة القراءة في المعكوس، وعدم الالتزام بفكرة المنهج التاريخي، فعلى الرغم من أن عدداً بالغاً من المؤرخين قبل الإسلام قد قدم لنا بصورة علمية تضارع ما هو متفق عليه في أيامنا الحالية، منهجية علمية للتاريخ بقواعد ومعايير يلتزم بها القائمون عليها، إلا أنه وفي زمن العباسيين بصورة خاصة حدثت انتكاسة تجاه تاريخ العرب قبل الإسلام. ولعل المفارقة التاريخية، والازدواجية الأخلاقية في هذا المقام تتصل بكون العباسيين قد قاموا على ترجمة وتعريب علوم الإغريق والأثينيين إلى اللغة العربية، عبر النصارى العرب بنوع خاص مثل السريان، لكنهم في الوقت ذاته عمدوا إلى إنكار وجود أي تاريخ حضاري للعرب قبل ظهور الإسلام، وكأن وجود مثل ذلك التاريخ، أو الحديث عن مثل تلك الحضارات هو أمر يمكن أن ينتقص من الحضارة العربية بعد الإسلام، والتي شارك في إقامة أعمدتها نصارى ويهود وعباد أوثان، وفات عليهم أنه وإن كان الإسلام قد أفرز لاحقاً حضارة كبرى في كل المجالات السياسية والإدارية والاقتصادية، إلا أن ما جرت به المقادير من قبل كان نتاجاً إنسانياً عالياً وغالي الجودة، وإن إنكاره لن يزيد من شأن الحضارة الإسلامية ذراعاً واحدة، إذ كيف لعاقل من المؤرخين أن ينكر جدلية التاريخ الذي مرت به تلك المنطقة من عصور إنسانية مختلفة، كل منها صبغ بصبغة خاصة، بدءاً من العصر الحميري، ثم العصر السبئي، والعصر الكندي، مروراً بالعصر العدناني والعصر القرشي والعصر الأموي والعباسي والأيوبي والبنهاني واليعربي، فقد كانت جميعها سلسلة متصلة من التواصل الأنثروبولوجي تنبه لها عدد كبير من المستشرقين الغربيين ومن الرحالة، وكذا فعل عدد قليل من المفكرين والمؤرخين العرب، الذين صارت كتاباتهم مراجع لنا، تهدينا في طريق البحث عما كان هناك، وكيف كان وإلام انتهى بهم المقر والمستقر... ماذا عن هؤلاء؟ جوستاف لوبون في مقدمة المستشرقين الغربيين الذين تناولوا سيرة الحضارة العربية قبل الإسلام، الطبيب والمؤرخ الفرنسي الشهير «جوستاف لوبون» (1841- 1931)، والذي اهتم في كتاباته بشكل خاص بعلوم الآثار وعلم الأنثروبولوجيا، وعني بالحضارة الشرقية، ويعد من أكثر فلاسفة الغرب موضوعية وموثوقية لجهة الحديث عن الأمة العربية والحضارة الإسلامية، ومن أوائل الذين قالوا بفضل العرب على الغرب في موجات التنوير والتعليم والإبداع. والحديث عن شخص «لوبون»، وكذا مؤلفاته في حاجة إلى قراءة قائمة بذاتها، غير أن أهم ما يعنينا بشأنه في هذا البحث، هو حديثه عن تلك الحقبة المثيرة للجدل الفكري، عن حضارة العرب قبل الإسلام، والتي جاء على ذكرها في كتابه العالمي «حضارة العرب»، وفيه عمل جاهداً على أن يبعث عصر العرب الذهبي من مرقده، وأن يبديه للعالم في صورته الحقيقية، وجاء إصدار الكتاب في عام 1884 م. أنضر الحضارات يرى لوبون أن السجايا الخلقية للعرق العربي هي التي عينت اتجاهه، وإن إمكانية ظهور حضارة أمة ولغتها بغتة على مسرح التاريخ، لا يكون إلا نتيجة نضج بطيء، وأن تطور الأشخاص والأمم والنظم والمعتقدات لا يتم إلا بالتدريج، وأن درجة التطور العالية التي تبدو للعيان لا تبلغ إلا بعد الصعود في درجات أخرى، فإذا ما ظهرت أمة ذات حضارة راقية كانت هذه الحضارة ثمرة ماضٍ طويل. لقد رأى لوبون أيضاً أن جهل الناس لهذا الماضي الطويل لا يعني عدم وجوده، وأن الحضارة التي أقامها العرب في أقل من مائة سنة، وهي من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ، ليس مما يأتي عفواً، وإنه كان للعرب قبل الإسلام حضارة لم تكن دون حضارة الأشوريين والبابليين تقدماً، وكان للعرب عدا الآثار القليلة التي كشف عنها، لغة ناضجة وآداب راقية، وكان العرب ذوي صلات تجارية بأرقى أمم العالم أجمعين. بما يتم خارج جزيرتهم، فالعرب الذين هذا شأنهم كانوا لا ريب، من ذوي القرائح التي لا تتم إلا بتوالي الوراثة وبثقافة سابقة مستمرة، والعرب الذين صقلت أدمغتهم على هذا الوجه استطاعوا أن يبدعوا حضاراتهم الزاهرة بعد خروجهم من جزيرتهم في مدة قصيرة. أرومة سامية لا همجية ما هو منشأ العرب قبل الإسلام؟ وهل هم شعوب لها تاريخ، ولذا لها حضارة، أم أنها أمة همجية وحشية بربرية كما ذهب البعض؟ يؤكد «لوبون» على أن العرب واليهود والفينيقيين والعبريين والسوريين والبابليين والأشوريين، الذين استوطنوا جزيرة العرب وآسيا الصغرى حتى الفرات، من أصل واحد، ويطلق على هذا الأصل الأرومة السامية. وتقوم قرابة هذه الأمم على تجانس لغاتها، واشتراك أبنائها في صفات جسمانية متماثلة كاسوداد شعورهم وكثافة لحاهم وكمدة ألوانهم... وما إلى ذلك. وإذا جاز لنا أن نحكم في مبادئ الساميين والاجتماعين، من خلال مبادئنا الحاضرة، رأيناها قبلية غير راقية، وذلك مع الاعتراف بأن الأمم السامية أقامت حضارات عظيمة، وأن ثلاثة من الأديان الخمسة أو الستة التي تسود العالم (اليهودية والمسيحية والإسلام) نشأت عن الفرعين الساميين واليهود والعرب. وكانت القرابة بين العرب واليهود وثيقة، ودليل ذلك ما بين لغتي الأمتين وتقاليدهما من التشابه. هل من فارق رئيس بين العرب يمكن على أساسه استقراء علاقتهم بالحضارة، وإلى أي درجة اتصل المشهد؟ يؤكد «لوبون» على أن الفارق الأساسي الوحيد بين العرب هو ما أيدته تقاليدهم وطرق معيشتهم، وهو تقسيمهم إلى أهل حضر وأهل بدو، ويجب ألا يغيب هذا التقسيم الجوهري عن البال حين البحث في تاريخهم، فأما أهل البدو، وهم الأعراب الموزعون فيما بين المحيط الأطلنطي والخليج العربي، فلهم طرق عيش وعادات وطبائع لا تزال كما كانت عليه منذ آلاف السنين، ويحتمل أن تبقى هكذا إلى الأبد، وهم مقسمون، كما في العصر الإسرائيلي، إلى قبائل ترتحل عن الأماكن المقيمة بها عندما تستنفذ مواشيهم ما عليها من الكلأ، وأما أهل الحضر من العرب فهم على العكس، يتغيرون بتغير الأماكن والشعوب التي يخالطونها. وإن تقسيم العرب إلى أهل حضر وأهل بدو يطابق ما في الرواية، التي قالت بتقسيمهم إلى ثلاثة عروق، العرق الذي باد وعفى أثره قبل الإسلام، والعرق المؤلف من أبناء قحطان، الذين استقروا ببلاد اليمن، والذين هم أقحاح العرب، والعرق المؤلف من ذرية إسماعيل الذي هو ابن هاجر المصرية. لوبون ضد رينان البحث عن الجذور التاريخية للحضارة العربية قبل الإسلام، لا سيما في قراءات المستشرقين والمفكرين الغربيين، يقودنا بالتأكيد والتحديد إلى المؤرخ والكاتب الفرنسي الشهير «أرنست رينان» (1823- 1892)، وهو تلميذ نجيب للمستشرق الفرنسي الأشهر «سيلفستر دي ساس» Silvester de Sacy (1758- 1838، وقد نال رينان شهادة الدكتوراه في الفلسفة عام 1852 عن أطروحة «ابن رشد والرشدية». تذهب آراء رينان ضمن مجموعة من المستشرقين الغربيين الذين يرون أنه لا تاريخ للعرب قبل ظهور الإسلام، وحجتهم في ذلك أن العرب قبل الإسلام، إذ كانوا من قبائل متنقلة عاطلة من العنعنات، كانوا من الأجلاف الذين لم تعِ ذاكرة الإنسان شيئاً عنهم. في هذا الإطار يقول «رينان»: «لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسي والثقافي والديني، قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الذي صار به العرب أمة فاتحة مبدعة، ولم يكن لجزيرة العرب شأن في القرون الأولى من الميلاد، حين كانت تغط في دياجير ما قبل التاريخ، ولم يظهر بأسها وبسالتها إلا بعد القرن السادس من الميلاد». يقف «لوبون» ضد هذا الرأي ويراه فاسداً من أول وهلة، وآية ذلك عنده أن الحضارات لا تفنى ولا تنشأ من العدم، وأنه لا بد من وجود مسيرة إنسانية طويلة تقود إلى حضارة بعينها في صورها المختلفة نهاية الأمر، ويضيف لوبون أنه لم يكن أمر حضارة العرب قبل ظهور الإسلام غير ذلك، وإن عسر علينا نقول كيف كانت هذه الحضارة فقد أثبتت الآثار والوثائق التي بأيدينا وجودها، وأنها لم تكن – على ما يحتمل – دون حضارات بشرية رائدة في تاريخ الإنسانية مثل الحضارتين الآشورية والبابلية، اللتين ظهر شأنهما حديثاً (1884) بفضل علم الآثار بعد أن كانتا مجهولتين. لكن السؤال ما الذي يدعو «أرنست رينان» ومن لف لفه من رحالة ومستشرقين ومؤلفين إلى أخذ هذا المنحى غير العلمي وغير الموضوعي، والمحمل بكثير من العصبيات والقبليات الأوروبية والغربية المعاصرة؟ آداب ناضجة ولغة راقية في تقدير لوبون أنه لم ينشأ وهم الناس في همجية العرب قبل ظهور الإسلام عن سكوت التاريخ فقط، بل نشأ أيضاً عن عدم التفريق بين أهل البدو وأهل الحضر من العرب. وليس الأعراب غير فرع من فرعي الأرومة العربية، فيوجد بجانبهم العرب المتحضرون المقيمون بالمدن والماهرون في أمور الزراعة، ويسهل علينا أن نثبت وجود حضارة عظيمة لهؤلاء المتحضرين من العرب، وإن كنا لا نعرف تفاصيلها. ولم يكن التاريخ صامتاً إزاء ثقافة العرب القديمة صمته إزاء الحضارات الأخرى، التي رفع العلم الحديث عنها التراب، ولو كان التاريخ صامتاً إزاء حضارة العرب لقطعنا، مع ذلك، بوجودها قبل ظهور الإسلام بزمن طويل، ويكفي لتمثلها أن نذكر أنه كان للعرب قبل الإسلام آداب ناضجة ولغة راقية، وأنهم كانوا ذوي صلات تجارية بأرقى أمم العالم منذ القديم، فاستطاعوا في أقل من مائة سنة أن يقيموا حضارة من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ، والكلام لجوستاف لوبون. والحق أن الآداب واللغة من الأمور التي لا تأتي عفواً، وهي تتخذ دليلاً على ماضٍ طويل، وينشأ عن اتصال أمة بأرقى الأمم اقتباسها لما عند هذه الأمم الراقية من التمدن إذا كانت أهلاً لذلك. وقد أثبت العرب أنهم أهل للاقتباس، ولا ريب في أن العرب الذين استطاعوا في أقل من قرن أن يقيموا دولة عظيمة، ويبدعوا حضارة عالية جديدة، من ذوي القرائح التي لا تتم إلا بتوالي الوراثة، وبثقافة سابقة مستمرة، وبالعرب، لا بأصحاب الجلود الحمر أو الأستراليين، أنشأ الخلفاء الراشدون تلك المدن الزاهرة التي ظلت ثمانية قرون مراكز للعلوم والآداب والفنون في آسيا وأوروبا. أجل لقد استطاعت أمم كثيرة غير العرب أن تهدم دولاً عظيمة، ولكنها لم تقدر مثلها أن تبدع حضارة، لما لم يكن عندها ما عند العرب من ثقافة سابقة كافية، وكل ما قدرت عليه هو أنها استفادت، بعد زمن طويل، من حضارة الأمم التي قهرتها، ومن ذلك أن البرابرة الذين قوضوا دعائم الإمبراطورية الرومانية، قاموا بجهود عظيمة دامت قروناً كثيرة قبل أن يقيموا حضارة على أنقاض الحضارة اللاتينية، ويخرجوا من ظلمات القرون الوسطى. إشكالية مصادر تاريخ العرب الشاهد أنه لا يمكن التأريخ لتاريخ أمة من الأمم، أو تبيان حضارة شعب من الشعوب، دون مصادر تاريخية نقف عليها، وأقوال موثوقة نستدل بها في الطريق. أحد أفضل الذين تناولوا الإشكالية التي نحن بصددها، هو المؤلف والكاتب اللبناني الأصل «جورجى زيدان» في كتابه الثمين «العرب قبل الإسلام»، والذي يبحث فيه عن أصل العرب وتاريخهم ودولهم وتمدنهم وآدابهم وعاداتهم من أقدم أزمانهم إلى ظهور الإسلام. والكتاب من ثلاثة أجزاء، وفي الجزء الأول تحديداً يحدثنا عن أصل العرب وتاريخ دولهم القديمة من القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد إلى ظهور الإسلام، ويدخل في ذلك تاريخ دول العمالقة في بابل ومصر، وفى بترا وتدمر وغيرها. وتاريخ العرب القحطانية في اليمن، ودولها المعينية والسبأية والحميرية وتمدنهم في مأرب وظفار وحضرموت، وأخبار عرب الشمال من عدنان، وما كان لهم من الدول في الحجاز ومشارق الشام والعراق وحروبهم، وغير ذلك. يخبرنا الكاتب المسيحي العربي، الذي نزر نفسه للبحث في أصول الحضارة العربية والإسلامية وجذورهما، إن الكتاب المحققين ما زالوا يتهيبون (كان ذلك عام 1908) التأليف في تاريخ العرب قبل الإسلام، وقد حاوله غير واحد منهم ورجعوا من نصف الطريق أو أوائله حتى أصبح الناس يعدون هذا الموضوع من الطلاسم التي ضاع سرها واستحال حلها. والثابت أنه لم يقدم على الكتابة فيه إلا «كوسين دي برسفال» المستشرق الفرنسي الشهير أواسط القرن التاسع عشر، فوضع كتاباً في ثلاثة مجلدات، خصص المجلدين الأول والثاني منه للعرب قبل الإسلام، فكان له دوي في عالم المستشرقين لأن المؤلف بذل جهده في تبويب الكتاب وترتيبه وإيضاح مشكلاته، لكنه كتبه قبل اكتشاف الآثار وحل رمزها، فعوَّل على أقوال العرب واليونان وخرجها تخريجاً يدل على ذكاء وعلم غزيرين، على أنه لو قدر له أن يعيد النظر فيه اليوم لفضل كتابة سواه على تنقيحه. العبرانيون وروايات العرب لعل جمهور المستشرقين الغربيين مثل المستشرق البريطاني (روجر. د. إبتون)، وكذلك الرحالة الغربيون مثل السويسري (جوهان لود فيبح بوركهارت)، وكذا المؤرخ والمستشرق الفنلندي (جورج أوغست فالين)، يجمعون على أن مصادر تاريخ العرب قبل ظهور الإسلام هي كتب العبراينين، وروايات العرب، والنصوص القليلة، التي وردت في كتب بعض مؤرخي اليونان واللاتينيين، وما جاء في الخطوط الآشورية، وما أسفرت عنه الاكتشافات، التي تمت في موقع الصفا القريب من دمشق. وتعترف كتب العبرانيين بقرابة العرب منهم، وتعد العرب أقدم من العبرانيين (اليهود)، وتقص علينا الشيء الكثير من أنباء نزاع العرب الدائم، وتكاد تطفح من أخبار العمالقة، وأهل سبأ الذين كانوا يقيمون بجنوب جزيرة العرب. ويروي العرب وكتب اليهود مصدر روايتهم أن قحطان وإسماعيل بن هاجر، جارية إبراهيم المصرية، هما والدا العرقين اللذين عمرا جزيرة العرب في الأصل، أي ولدا أهل الحضر في الجنوب والأعراب في الشمال، ويرون أن بني قحطان أقاموا دولة سبأ والدولة الحميرية باليمن، وأن بني إسماعيل سكنوا الحجاز القريبة من فلسطين، وأن بني إسماعيل كانوا أصحاب مكة، التي تنازعت هي وصنعاء اليمن عنوان عاصمة جزيرة العرب. وعلى ذلك يكون الأنباط والأدوميون والمؤابيون والعمالقة والعمونيون والمديانيون، وغيرهم من القبائل التي تردد اسمها كثيراً في التوراة من بني إسماعيل، ويظن أن هذه القبائل من العمالقة تحالفوا هم وأعراب سوريا، واستولوا على مصر سنة 2000 قبل الميلاد، وعرفوا بالرعاة ودام سلطانهم قروناً كثيرة وعلى ما في تاريخ العرب من غموض ومبالغات تجعل الاعتماد عليها أمراً صعباً نراها وحدها قد قصت علينا أنباء جزيرة العرب الماضية، وأيدت ما رواه مؤلفو اليونان واللاتين عن عظمة اليمن، ومما جاء في هذه الأنباء العربية أن اليمن كانت مقراً لأقوى دول الأرض، وأن حكم ملوكها دام ثلاثة آلاف سنة، وأنها غزت بلاد النهضة والصين من المشرق وبلغت بغزواتها مراكش من المغرب. روايات هيرودتس والمسعودي يقص علينا بنو إسرائيل بعض الأخبار عن تجارة العرب ومدنهم، ولا سيما مدينة سبأ في اليمن، ولكن قصصهم خالية من الأسانيد، وإن دلت على وجود مدن عربية عظيمة في أقدم العصور، غير أن حضارة العرب قبل الإسلام لم تكن بعيدة عن ريشة هيرودتس، المؤرخ اليوناني الكبير ومحبرته، فقد وصف الرجل- المؤرخ قبل المسيح بنحو أربعمائة سنة، بلاد العرب السعيدة بأنها من أغنى بقاع العالم، وأنه كان في مأرب أو سبأ، التي ورد ذكرها في التوراة، قصور نقرة ذات أبواب عسجدية، وآنية من ذهب وفضة وسرر من المعادن الثمينة. وهناك مطابقة بين ما رواه قدماء المؤلفين وما جاء في تواريخ العرب، التي أجمعت على اقتلاع غنى اليمن، واسمع ما قاله المسعودي حين تكلم عن مأرب: «كانت بلادهم في الأرض مثلاً، وكانوا على طريق حسن واتباع شريف الأخلاق وطلب الفضائل على القاعد المسافر بحسب الأماكن، وما توجده القدرة من الحال، فمضوا على ذلك ما شاء الله من الإعصار، لا يعاندهم ملك إلا قصموه، ولا يوافيهم جبار في جيش، فذلت لهم البلاد، وأذعن لطاعتهم العباد، فصاروا تاج الأرض» كان العرب بحسب «لوبون» واسطة بين قدماء الأوروبيين وبقاع الشرق القاصية، ولم تقتصر تجارة العرب على منتجات بلادهم، بل كانت تشمل السلع التي كانوا يجلبونها من أفريقيا، والهند أيضاً، واستعان العرب بالفينيقيين القريبين منهم لغة، زمناً طويلاً لبيع سلعهم، وكان العرب والبابليون يتنافسون في الإتجار مع الهند، وكان البابليون يصلون إلى الهند بطريق البر أو بطريق البحر من خليج العرب، وكانت قوافل البابليين تنقل السلع إلى سوريا، لتوزعها على العالم، مارة في طريقها إلى دمشق من تدمر هليوبوليس (بعلبك) المهمتين اللتين لا تزال بقاياها المائلة في الصحراء تثير الإعجاب. هل يمكن لنا تخيل مدن جزيرة العرب في مثل هذا التلاقح الفكري والثقافي والاقتصادي مع دول العالم من حولها؟ يمكننا أن نستنتج أن نجم الحضارة في شبه الجزيرة العربية لم يسطع في اليمن فقط قبل الإسلام، فما جاء في أقدم روايات التاريخ عن حضارة الحيرة والغساسنة يثبت أيضاً درجة استعداد العرب للقيام برسالتهم في عالم المدينة. لقد مجد العرب (حضارة الحيرة)، التي كانت تنافس القسطنطينية وعاصمة الفرس، ولم تقل عنها أهمية مملكة غسان التي أسسها عرب اليمن بعد ظهور المسيح بزمان قليل، والتي دام سلطانها نحو خمسمائة سنة، واشتملت على ستين مدينة محصنة كما جاء في كتب التاريخ. وظهرت عظمة حضارة مملكة غسان من حل الكتابات الحميرية المنقوشة على أثارها، التي اكتشفت بالقرب من عاصمتها القديمة (بصرى) الواقعة على حدود سوريا، ومن بقايا قنواتها، التي تشهد بما كان عند سكانها من الاستعداد الكبير للقيام بالأعمال العظيمة. وإذا كان عرب الحيرة وغسان متصلين بالفرس والرومان، كان تأثير هؤلاء في حضارة أولئك كبيراً، وغير ذلك أمر حضارة اليمن العربية التي هي أقدم من حضارة الرومان، والتي يجب أن يبحث فيها عن بقايا حضارة العرب القديمة، والتي نأسف على بقائها بعيدة عن البحث والتنقيب حتى الآن، فيظل اطلاعنا على أمر مدنها القديمة ناقصاً، نقصان اطلاعنا السابق على آثار الأشوريين التي كانت مطمورة تحت رمال الصحراء. ديانات العرب قبل الإسلام البحث من جذور الحضارة العربية قبل الإسلام يأخذنا ولا شك إلى منطقة شديدة الأهمية، تلك المتصلة بالحالة والحياة الدينية هناك، إذ عرفت المنطقة اليهودية والمسيحية بشكل وافٍ، ما يعني أنها كانت أرضاً خصبة وملائمة لتكوين الإنسان وظهور واستقبال الأديان ونشوء الحضارات وارتقائها، وهي المنطقة التي كانت مهد الديانات السماوية، ولا أحد بإمكانه تجاهل ما قدمه عرب تلك الرقعة الجغرافية للحضارة الإنسانية، ومعنى ذلك أن شبه الجزيرة العربية لم تكن مرتعاً للوثنية كما يحلو للبعض أن يصورها. هنا الحديث عن اليهودية وكينونتها في شبه الجزيرة العربية يضحي أمراً شاقاً وفي حاجة إلى عدة آلاف من السنين منذ رسالة إبراهيم الخليل وحتى مملكة سليمان ابن داود، تلك التي تشابكت خيوطها وتداخلت خطوطها مع مملكة سبأ في اليمن بنوع خاص، وفي عموم الجزيرة العربية بشكل عام. ولهذا ربما نتوقف عند المسيحية في الجزيرة العربية قبل الإسلام لقرب الحدث تاريخياً ولوجود مراجع ومصادر متعددة تتناول شأنه. ثمة تقاليد قديمة تتكلم عن تبشير مبكر للمسيحية جنوب الجزيرة العربية والحبشة انطلاقاً من الكتاب المقدس بعهدية القديم والجديد من إشارات إلى علاقات قامت منذ غابر العصور بين العرب واليهود، جعلت من دخول المسيحية إلى جنوب الجزيرة أمراً بديهياً. دخلت المسيحية كذلك بلاد حمير بحصر المعنى (غرب اليمن) ويروي المؤرخ (فيلو ستورجيوسي) أن القيصر قسطنطيوس الثاني (337-361م) الذي أولى شؤون حمير والجنوب بشكل عام اهتماماً كبيراً، وأرسل بعثة برئاسة الأسقف تيوفلس الهندي على الأرجح قبل سنة 356، الهدف منها إنشاء كنائس من أجل خدمة المواطنين البيزنطيين المقيمين في تلك المملكة وجلهم من التجار ومحاولة نشر المسيحية، وتبعاً لرواية «فيلو ستوجيوس»، كان السكان الأصليون حينها يمارسون الديانات الوثنية القديمة باستثناء قلة من اليهود. كان الملك اليهودي «ذي نواس» الذي اعتلى الحكم عام 522 ميلادية قد استغل حوادث عنف وقعت في نجران واستهدفت اليهود لكي يبدأ هجومه على المدينة، أما نجران فيبدو أنها قاومته، وبدت منيعة بحيث أنه لجأ إلى الحيلة، فوعد سكانها بالأمان والعفو إن استسلموا، ففعلوا، ولكنه ما إن دخلها حتى ارتكب مجازر رهيبة، فقد أمر جنوده بحفر حفرة كبيرة في جوار المدينة ملؤوها بالوقود وأضرموا فيها النيران، وراحوا يلقون فيها كل من رفض أن ينكر دينه ويعتنق اليهودية، فوصل عدد الضحايا إلى الآلاف، وكان من بينهم كهنة ورهبان من المناطق المجاورة، كانت هذه الحادثة المعروفة قرآنياً بـ(أصحاب الأخدود) سبباً في انتشار أكثر للمسيحية في شبه الجزيرة العربية، فطبقاً لابن هشام، وصل نجراني نجا من المجزرة إلى بلاط ملك أكسوم في بلاد الحبشة، وأبلغ الملك وكان اسمه (كالب) أخبار المجزرة، فصعق مما بلغه، ووطد العزم على الانتقام من ذي نواس. وعليه فقد عبرت حملة عسكرية مسيحية حبشية باب المندب بمباركة الإمبراطورية البيزنطية، وهزم الحبش ملك حمير المتهود، الذي قضى بحسب الأسطورة انتحاراً في البحر، وحول البلاد إلى محمية حبشية. ويذكر في كتاب الحميريين أن النجاشي (كالب) أتى بكهنة من الحبشة ساعدوا في إعادة تأسيس المسيحية، ويفيد الكتاب نفسه أن النجاشي أرسل خبر انتصاره إلى بطريق الإسكندرية (المونو فيزي) طيموتاوس، الذي رسم أسقفاً لوقته وأرسله إلى الجنوب. كلمة أخيرة لعل كل جزئية مما تقدم في حاجة إلى مبحث قائم بذاته، وما تلك السطور إلا عصف ذهني، دون تقصير مخل، لحضارة سادت طويلاً، ومهما تكن الآثار التي ألمحنا إليها آنفاً ناقصة، فإنها مما تتم به روايات قدماء المؤلفين، ومما نبصر من خلاله ازدهار حضارة العرب الغابرة التي نسيها الناس في الوقت الحاضر، فتنتظر من يكشف الغطاء عنها، والتي نرتدع بما نعرف عنها من العلم القليل عن عد العرب همجاً، والعرب هؤلاء قد ظهروا على مسرح التاريخ قبل الرومان بقرون كثيرة، وأنشؤوا المدن العظيمة، وكانت علاقاتهم بأرقى شعوب الأرض وثيقة. فبجانب اليهود والنصارى، كان في الجزيرة العربية فريقاً يعبد (الإله الواحد) وسمي هؤلاء بالحنفاء، وليست عقيدة التوحيد كما يقول (جوستاف لوبون) التي هي من أهم مبادئ القرآن كل ما عند الحنفاء، بل قالوا أيضاً إن على الإنسان أن يسلم بقضاء الله وقدره تسليم إبراهيم حينما رأى ذبح ابنه .. هل يمكن أن يكون تاريخ هكذا شعوب وقبائل إلا تاريخ حضارات عريقة وليس حضارة واحدة بشهادة الشرقيين والغربيين معاً؟ ريشة هيرودتس حضارة العرب قبل الإسلام لم تكن بعيدة عن ريشة هيرودتس، المؤرخ اليوناني الكبير ومحبرته، فقد وصف الرجل- المؤرخ قبل المسيح بنحو أربعمائة سنة، بلاد العرب السعيدة بأنها من أغنى بقاع العالم، وأنه كان في مأرب أو سبأ التي ورد ذكرها في التوراة، قصور نقرة ذات أبواب عسجدية، وآنية من ذهب وفضة وسرر من المعادن الثمينة. الرجوع من منتصف الطريق يخبرنا الكاتب المسيحي العربي جورجي زيدان، الذي نذر نفسه للبحث في أصول الحضارة العربية والإسلامية وجذورهما، إن الكتاب المحققين ما زالوا يتهيبون (كان ذلك عام 1908) التأليف في تاريخ العرب قبل الإسلام، وقد حاوله غير واحد منهم ورجعوا من نصف الطريق أو أوائله حتى أصبح الناس يعدون هذا الموضوع من الطلاسم التي ضاع سرها واستحال حلها. حضارة الحيرة لقد مجد العرب (حضارة الحيرة) التي كانت تنافس القسطنطينية وعاصمة الفرس، ولم تقل عنها أهمية مملكة غسان التي أسسها عرب اليمن بعد ظهور المسيح بزمان قليل، والتي دام سلطانها نحو خمسمائة سنة، واشتملت على ستين مدينة محصنة كما جاء في كتب التاريخ.
العرب قبل الاسلام
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين