معرفة الحجج المختلفة، ومستويات الخطاب، بالإضافة إلى القدرة على طَرق الأبواب المؤثرة، والعلم بدقائق المداخل والمخارج= من المهارات التي لابد أن يُتقنها كلُّ  صاحب مشروع، ورسالة، وفكرة، إذا ما أراد أن يُكتبَ  له النجاحُ  بإذن الله؛ فليس كل الناس سواءً، والقدرات والأفهامُ تتفاوتُ، والخلاف سنة كونية (ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك)، وما يصلح لجماعة قد لا يصلح لآخرين، ولعل هذا يفسرُّ  تنوعَ  الأسلوب القرآني في الدعوة والموعظة والتذكير.

يُحدثنا القرآن في سورة الحجر كيف أن لوطا -عليه السلام- حاول أن يُثنيَ  قومَه عن المعصية؛ فقال لهم: (إن هؤلاء ضيفي؛ فلا تفضحون، واتقوا الله ولا تخزون)؛ فَخَوّفهم من الله، وقدّمَ  لهم الحُجّةَ الدينية: (واتقوا الله)، ثم ذكرَ  حجة اجتماعية أخلاقية عرفية: (ولا تخزون)؛ لأن إهانةَ  الضيف فضيحة وإهانة في مجتمعهم. يقول العلامة ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: (وقد ذَكّرَهُم بالوازع الدّيني -وإن كانوا كفاراً- استقصاءً  للدعوة التي جاء بها، وبالوازع العرفي)؛ فالشاهد هنا أن المقصود هو أن يثنيهم عن المعصية، سواء حصلت هذه النتيجةُ  من خلال حوار ديني أو حوار أخلاقي أو هما معا.

والسياق يُخبرنا والآيات تُحَدّثُنا أنه -أي: لوط عليه السلام- كان دقيقا جدا؛ يعلم ما يفيدهم وما ينتفعون به فيخاطبهم به، ويترك ما سوى ذلك، وإن كان صحيحا في نفسه؛ يقول الألوسي في روح المعاني: (وإنما لم يصرح عليه السلام بالنهي عن نفس تلك الفاحشة؛ قيل: لأنه كان يعرف أنه لا يُفيدهم ذلك)، وفي زهرة التفاسير للشيخ محمد أبوزهرة رحمة الله عليه: (ولم يخبرهم أنهم ملائكة لأنهم لا يُدركون، فكان نبي الله الأريب الذي يذكر لهم ما تدركه عقولُهم).

ونجد كذلك أن نوحا -عليه السلام- في دعوتِه قومَهُ= حاول أن يستدعيهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبون؛ من الوجه الذي يكون أكثرَ  إقناعا لهم؛ من الوجه الذي يكون أقربَ  إلى ما تدركه عقولهم. يقول الله سبحانه في سورة نوح: (فقلتُ: استغفروا ربكُم؛ إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين...)؛ فَجَمعَ هنا بين الترغيب بالأجر الأخروي: (استغفروا ربكُم؛ إنه كان غفارا)، وبين إقناعهم من خلال بيان المنفعة الدنيوية العاجلة: (ويمددكم بأموال وبنين...). 

وإلى ذلك أشار شيخُ  المفسرين ابن جرير في تفسيره إذ قال: (وقال ذلك لهم نوح؛ لأنهم كانوا -فيما ذُكر- قوما يحبون الأموال والأولاد)، ونَجِدُ  كذلك في الجامع لأحكام القرآن  للقرطبي قولَ  قتادة: (علم نبيُّ  الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم أهلُ  حرص على الدنيا فقال: هَلُمّوا إلى طاعة الله؛ فإن في طاعة الله درك الدنيا والآخرة)؛ فتأمل كيف أنه استدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يُحبونها.

ومن الممكن أيضا -والله أعلم- أن نستنبط أصلَ  هذه الفكرة [أصل الفكرة فقط؛ وإلا فالسياق والمعنى مختلفان] من قوله جل جلاله: (وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو: ادفعوا)، وبيان ذلك في قول الإمام ابن عطية في المحرر الوجيز: (فلما رأى أنهم ليسوا أهل ذلك، عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة، أي: أو قاتلوا دفاعاً عن الحوزة)، ويوضّحه أكثر قولُ  الشيخ محمد أبوزهرة في تفسير ذات الآية: (فإن لم تسمُ  نفوسكم إلى حد القتال طلبا لمرضاة الله؛ فلتقاتلوا دفاعا عن الوطن والعشيرة)؛ فالشاهدُ  أن الآيةَ  سلكت طريقين مختلفين من طرق الإقناع للوصول إلى نتيجة واحدة. وهذا المعنى له تطبيقات كثيرة على المستوى المقاصدي الأوسع، وفي باب السياسة الشرعية. والله أعلم.

حَدّثُوا الناسَ   بما يعقلون.. والسلام.

طارق

كامبرِدْج؛ مساء الأحد ٢٠١٧/٢/٢٦.