Image title

علي بانافع       

     يصاف بعد غدٍ الاثنين 18 ديسمبر اليوم العالمي للغة العربية، وتعد العربية التي يتحدث بها أكثر من 422 مليون شخص من أكثر اللغات السامية استخداما اليوم في العالم، وإحدى أكثر اللغات انتشارا، وعلى الرغم من سرعة انتشار العربية وإقبال غير العرب على تعلمها، فإن وضعها اليوم –خاصة بين الناطقين بها من العرب- بحاجة إلى وقفة تأمل.

     كنا نتحدث عن الظاهرة العامة التي يشكو منها كل من أُتيحت له الفرصة لامتحان الخريجين حول ضعف مستواهم وقلة معلوماتهم وعجز لغتهم وما بها من أخطاء إملائية ونحوية، ولكن أحد المتحدثين قال: ليس ما أدهشني هو فقر المعلومات والاستهتار في الإجابة فكل هذا متوقع؟! ولعله كان مقصوداً من الذين أداروا أو خربوا التعليم، ولكن الذي يدهشني في الجيل الجديد -يقول المتحدث- هو الغباء إنك تحس فعلاً بهبوط شديد في قدرتهم على الفهم أو التعبير أو الخلق؟!

     ورحت أُفكر في هذه الظاهرة التي لا شك في وجودها؛ مع يقيني في نفس الوقت أن الجيل الجديد لا ينقصه الذكاء بل لعله أذكى من الأجيال التي سبقته بحكم الظروف والتقدم التقني في وسائل المعرفة وأسباب أخرى عديدة، والدليل أنه أقدر منا على النجاح والوصول والتكيُّف مع قيم المجتمعات المُنهارة في الخارج، فكيف يمكن تفسير ظاهرة العَيِّ هذه -كما أُحب أن أُسميها بدلاً من الغباء- لأن الغباء عادة صفة موروثة لا حيلة فيها، أما مشكلة هذا الجيل كما خطر لي فهي العجز عن الفهم والعجز عن التعبير، هي مشكلة فقدان وسيلة الاتصال مع العالم المثقف، فهذا الذي يبدو غباءً أو تخلفاً عقلياً في الجيل الجديد إنما هو من مظاهر العجز عن التعبير، هو التناقض الذي يروعنا بين الشهادة الجامعية التي يحملها الشاب وحقيقة أنه عاجز عن التعبير عاجز عن الفهم والإفهام، عاجز عن الخلق، فضلاً عن الإبداع لأنه بغير لغة؟! ولا أحد يدري بالضبط كيف ستكون صورة المجتمع العربي إن استمر الحال على هذا المنوال لجيل آخر؟! ولكن الظواهر توحي بظهور أغلبية ساحقة أُمية، بمعنى الجهل باللغة العربية حتى ولو حصلوا على الدكتوراه، أغلبية متخلفة ثقافياً وحضارياً تُديرها أقلية تتكلم اللغات الأجنبية، وسنكون مجتمع أشبه ما يكون بالجزائر أو لبنان أو الهند قبيل الاستقلال، ولو كان الأمر بيدي لأوقفت الدراسة في جميع مراحل التعليم خمسة أو عشرة أعوام لنتفرغ فيها لدراسة اللغة العربية، لأنه قبل إتقان العربية لن نتعلم أي علم ولا حتى سنتقن لغة أخرى، هذه قضية ملحة إلحاحاً شديداً وأعتقد أنها أخطر ما رُمينا به؟! وأحق القضايا باهتمامنا ألا وهي إعادة تعريبنا؟!

     لقد أثبتت التجربة أن إتقان اللغة الأم هو الذي يُمَكِّنْ من إتقان اللغات الأجنبية، وتأملوا مشاهير أُدبائنا ومثقفينا أو قارنوا بين الأجيال فسنجد أن أنبغ من تفوق في اللغات الأجنبية والثقافات الأجنبية هم الذين بدأوا بقاعدة سليمة ومتينة من اللغة العربية، أما غيرهم فقل أن ينبغ منهم أحد في اللغة الأجنبية لأنهم بلا لغة أصلية، إنهم كالتراجمة الذين يحيطون بالسياح أو في أحسن الحالات كالعامي في بريطانيا وفرنسا يُحَّسِنْ الحديث والفهم ويعجز عن الإنشاء والخلق الفكري أو الثقافي، وتذكروا دائماً رفاعة الطهطاوي وطه حسين إتقانهم للفرنسية قام على تبحرهم في العربية، وإني لأذهب إلى القول بأن أمة العرب لم تكن مؤهلة للدور الحضاري الذي قامت به بالإسلام، إلا أنها دون سائر الأمم كانت تمتلك أرقى لغة في العالم، لم يكن لديهم جامعات ولا مدارس ولا مسارح ولا دواوِّين ولا مؤسسات ولا مطابع، ولكن كان لهم مهرجانهم للشعر كل عام تُعَلَّقْ قصائد الفائزين فيه فوق أستار الكعبة فَسُمِّيَتْ بالمعلقات.

     إذا عرفنا أن الذي ميز بين الإنسان والحيوان هو اللغة، وأن الخط الفاصل بين الحضارة والبربرية وبين المثقف والعامي هو اللغة المكتوبة، أو ما اصطلح على تسميته بالفصحى؛ فالإنسان يستطيع التعبير عن احتياجاته اليومية وإشباع غرائزه وأحياناً ينتج بلغته هذه لوناً من الفن نسميه فلكلور، ولكن الثقافة هي اللغة المكتوبة فهذه وعاء الحضارة وأداتها وبغير اللغة الفصحى لا توجد حضارة ولا تاريخ ولا ثقافة، كان العرب قبيل ظهور الإسلام يمتلكون لغة فقط ولا شيء غير اللغة ولكنها لغة متقدمة جداً ومنتشرة على جميع المستويات، لغة كانت تجعل المرأة الحافية تهش على غنمها ببيت شعر تنشئه إنشاء وهي تسير فوق الرمال الحارقة محرومة من كل شيء إلا فصاحة التعبير، لغة كانت تثير حروبهم وتستفز نخوة أغنيائهم لغة تخلق المجد وتجلب العار، ولا أدل على رقي اللغة العربية من أنها استطاعت استيعاب وطرح كل ثقافة الإنسانية قبلها من الهندية واليونانية والرومانية، فترجمت التراث الإنساني كله في سهولة ويسر كأنها لغة عالمية معاصرة قد تطورت وتهذبت في الجامعات والمدارس ودوائر المعارف، بل استطاعت أن تطوي عدة لغات قديمة فتحتل مكانها بالكامل كتابة ونطقاً فغطت ألفاظها كل المعاني التي اكتشفتها أو نحتتها البشرية حتى ظهور العرب، وأعارت حروفها لأكثر من لغة مثل: الفارسية والتركية والهندية والسواحلية وشتى اللغات في أفريقيا وآسيا، بينما عجزت جميع اللغات عن أن تغطي حروف العربية فما منهم ينطق الحاء أو الخاء أو العين، بل إن أرقى اللغات اليوم لا تستطيع التمييز بين الخال والعم، أو المذكر والمؤنث حتى قيل إنك قد تسمع إنجليزياً يتحدث ساعة دون أن تعرف إن كان الذي سيبيت عندها بنت العم أو بنت الخال؟!

     كنا أمة تمتلك أو قل كنا  الأمة التي تمتلك أرقى أداة للفهم والتعبير، ومن ثم سهل علينا استيعاب الحضارة العالمية وتطويرها وتقديم حضارة متميزة أنارت التاريخ البشري لعدة قرون، وكما كانت اللغة العربية هي التي أهلتنا للدور الحضاري الذي جاء به الإسلام في بداية ظهورنا كأمة على مسرح التاريخ، كذلك فإن انهيار أمتنا وزوال حضارتنا ومذلة قومنا تأتي كلها مع تخلينا عن اللغة بل وبدأت مع تراجع لغتنا بانتقال السلطة إلى غير العرب؟!

     فهذا الجيل هو أول جيل يُحَرَمْ تماماً من تعلم اللغة العربية، فالمخطط الذي بدأه (دنلوب) للقضاء على اللغة العربية في مصر وانتشر بعد ذلك في البلاد العربية بعد الاستقلال السياسي قد آتى أُكله، عندما اختفى عنصر الوطنية في الولاء للغة البلاد فشحب وجود اللغة العربية في حياتنا مؤذناً بالمغيب، وانحدرت لغتنا أمام اللغات الأجنبية فهي تُدرس كلغة أجنبية ثانوية لها حصة في اليوم، فإذا حصلت على الثانوية ارتحت منها ومن سيرتها إلى الأبد، وهي لا توجد لا في الشارع ولا في الإذاعة ولا في التلفاز ولا في الإنترنت، بل تَرِدْ سيرتها -أحياناً- في مسرحيات تسخر منها؟! حتى معلم اللغة العربية لا يتكلم الفصحى أثناء تدريسه؟! ولكي يعرف هذا الجيل كيف قُتِلَتْ اللغة العربية؟! إسألوا الذين درسوا بالخارج كيف تُدرس اللغة الإنجليزية مثلاً في أمريكا كم ساعة تخصص لها في الأسبوع، بل إن الطالب المتقدم للجامعة أو حتى لعمل دكتوراه في الطب أو الهندسة بل  وكافة التخصصات لا بد أن يؤدي امتحان قبول في مادتين فقط اللغة الإنجليزية والرياضيات، وبعض الجامعات تضيف أسئلة في المنطق لا يمكن الإجابة عنها إلا بإتقان اللغة؛ بل أسألوا طلاب المدارس الأجنبية واللغات كم ساعة يدرسون اللغة الأجنبية وكيف تُحَرِّمْ عليهم المدرسة منذ الحضانة النطق بلغة أخرى؛ وخاصة العربية لكي يكون كل حدثيهم باللغة المراد إتقانها، بل إن بعض الآباء مسرورين لأن المدرسة تُحَرِّمْ على أولادهم النطق بلفظة عربية ولو فيما بينهم وخارج فصول الدراسة، وتأمل هؤلاء الأولياء وهم يَلْوُون ألسنتهم في بيوتهم لِيقصروا حديثهم مع أطفالهم على اللغة الأجنبية التي اختاروها لهذا الجيل الخلاسي الذي يربونه؟! فأي جريمة هذه ترتكب في حق اللغة العربية لغة القرآن ولغة أهل الجنة إن كانوا يريدون الجنة؟! فإنا لله والموعد الله لمن كان يرجو لقاء الله ..