يرى المؤمن بالله زهرة بهيجة المنظر، بديعة التنسيق ، فيقول من أعماقه سبحان الله ، ويقول الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي : "كل فلسفة لا تربط الأشياء بموجدها هي فلسفة ناقصة " إذن فالتفات المؤمنين إلى الخالق المصوّر عند كل مايُدهِش ينم عن فهم عميق و تصور صحيح للعلاقة مع الكائنات ، غير أن الملحدين يعتبرون نَظَرَالدهشة لدى المؤمنين المقرون بتعظيم الخالق سذاجة و سطحية ويدعون بأن العلم قد كشف أسرارالكائنات ، وبيّن كيفية صنعها وآلية نشوئها وإذا كان لابد من إعجاب فهو يتجه لمن اكتشفها ، وطالما أشاد ستيفن هوكينغ عالم الفيزياء المعروف وأبدى إجلاله وتعظيمه للعلماء أصحاب نظريات الفيزياء الحديثة بينما لا يجد أي ضرورة لذكر من أوجد المادة والقوانين التي تدرسها الفيزياء .

يصرف العلماء جهدهم كله في وصف و تفسير ظواهر الكون ، يحاولون أن يجيبوا على السؤال المهيمن "كيف": 

كيف يُخلق الحيوان ، كيف تتشكل الجبال ، كيف تدور الكواكب ، كيف نشأت المجرة ، كيف بدأ الكون ..

وفي غمرة انهماكهم في الإجابة على "كيف " يسقطون من حسابهم السؤال العميق الثاني "من" إنه سؤال الإيمان ، ربما يكون معهم الحق في أنه سؤال لا يقع في دائرة العلم التجريبي و لا تطال جوابه أدوات العلم ومختبراته ولكنه يبقى سؤالاً ملحاً في عقل الإنسان منذ أن وجد :

من خلق الانسان ، من أرسى الجبال ؟ من أجرى الأنهار ؟

يحاول العلماء الملحدون بالله بكل وسيلة أن يجعلوا "كيف " بديلا كاملاً ل"مَن" فعلى سبيل المثال يحاول ريتشارد دوكينز عالم الأحياء المعروف على خطى تشارلز دارون أن يدلل على أن عملية الخلق حدثت بخطوات متعاقبة كل واحدة منها غاية في البساطة تراكمت مع الزمن حتى وصلت إلى التعقيد والكمال الذي نراه الآن ، كأنه يريد أن يقول إن الخطوة البسيطة جداً في تاريخ التطور هي بسيطة لدرجة أنها لا تحتاج لمن يقوم بها !

وقد بدا للبعض أن الانتخاب الطبيعي الذي جاء به دارون ربما يحل المشكلة ويجيب على سؤال " من " فإذا سألت مثلاً من حدد طول منقار الطائر فيأتي الجواب بأنه الانتخاب الطبيعي ! ولكثرة ما يجاب به عن الأسئلة فقد ظن البعض أن هناك كائناً يسمى الانتخاب الطبيعي يقوم على تعديلات هائلة في الكائنات الحية ويقرر ويزيد في الخلق ما يشاء وليس هذا إلا توهماً ! فليس الانتخاب الطبيعي كائناً ولكنه مجرد آلية ! أي أنه إجابة على سؤال كيف وليس جواباً على " من "

بقي السؤال ب "من "مؤرقاً للملحدين العلماء حتى أصبح مكروها منبوذاً في منهج العلم الذي يتبنونه، ولم يعد في جامعاتهم مكان لكل من سولت له نفسه أن يسأل : من فعل كذا ومن قدر ومن صمم ، فحتى تكون من أهل العلم فعليك أن تبقى في حدود وتحت سقف كيف ، تصف الحوادث ، تبحث الآلية التي تحدث بها وتفسر وتتنبأ وتتحكم ولكن إياك أن تقترب من السؤال المؤرق "من "

وإلا فأنت غير علمي ولا تنتمي إلى أهل العلم .

يبرر أصحاب المنهج العلمي هذه الكراهية ل "من" بالإضافة إلى أنه خارج قدرة ومتناول أدوات العلم -بأنه يسول للعالم القعود عن متابعة البحث فإذا سأل عالم الفيزياء نفسه من سبّبَ الانفجار العظيم مثلاً ثم أجاب بأنه الله (والله على كل شيء قدير ) فإنه هنا ( كما يدعون ) لا يجد داعيا لمزيد من البحث والتقصي فالله فعل ذلك بمشيئته وعلى طريقته وليس بعد ذلك مشكلة .

تكمن المشكلة في عدم التفريق بين من وكيف ، فالإجابة بأن الله هو الذي صنع ذلك لا يعني أبداً أن نكف عن السؤال بكيف فعل ذلك ، ولحسن الحظ فإن القرآن حافل بالسؤالين كليهما: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ) و ( ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات ) وهذا توازن عجيب في توجيه الإنسان .

إذا كانت "كيف " تقودك في وسط الطريق فإن "من " تدلك على بدايته ونهايته .

وإذا كانت "كيف "عنوان العلم فإن "من " عنوان الإيمان

يحتاج المؤمنون بالله حاجة ماسة إلى الخوض في إجابة "كيف " بجانب يقينهم من إجابات "من "

ويحتاج العالم مع خوضه في غمار إجابات "كيف " أن يقف بين الحين والآخر ويجيب على سؤال "من ". وإذا كانت "كيف " تسد جوع العقل فإن "من" تشبع نهم الروح.

"من " وحدها تغيبنا عن العالم ، و"كيف "وحدها تغرقنا في العالم ، وتخنقنا وتحدّ من إنسانيتنا .

لن يستطيع العلم أن يكون بديلاً للإيمان ، ولا يريد الإيمان أن يوقف مسيرة العلم ،إنهما إجابتان لسؤالين راسخين في عقل الإنسان "من" و "كيف " .