تمهيد


التخلف والتقدم موضوع نال اهتمام الكثير من المفكرين والكتاب، سعيا إلى اكتشاف الأسباب والقوانين المؤدية إلى ديمومة التخلف أو الانعتاق منه، وسلوك طريق التقدم. وغالبا ما يجري تشخيص أسباب التخلف في أسباب خارجية وأسباب داخلية تتعلق بهيمنة القوى الاستعمارية أو الصراعات الداخلية وعدم الاستقرار على التوالي.


وسأحاول اليوم تقديم مقاربة مختلفة تتناول الهمجية والحضارة كأسس ومسببات للتخلف والتقدم.


لقد ارتقى الإنسان من حال الهمجية التي تشبه الحالة الحيوانية عبر قرون متطاولة من الجهد والإبداع الإنساني والقيادة الرشيدة. ولما كان الجهد والإبداع الإنساني أمران ميسران لكل البشر يحكم تساويهم في الخلق والإمكانيات الذهنية والبدنية مع فروق طفيفة، فإن القيادة الرشيدة هي في رأيي أهم أسباب التقدم كما أن القيادة غير الرشيدة أهم أسباب ديمومة التخلف.


والرشد حالة ثقافية تتعلق بمستوى التحضر الذي بلغته البيئة التي ينتمي إليها الفرد الرشيد، ونوعية ومستوى التربية الذي منحته هذه البيئة للفرد. والهمجية والتحضر حالتان تكتسبان بالتربية والقدوة، ومن دواعي الأمل أنها ليست مسألة جينية بل مسألة تربية لابد من اكتسابها منذ عمر مبكر، أي منذ سن الطفولة الأولى، حتى يتعزز السلوك المتحضر ويقمع السلوك الهمجي. إذ أنه إذا شب المرء في أسرة ومجتمع يعيشان حالة الهمجية، فإن اكتسابه للسلوك المتحضر يصبح أمرا مشكوكا فيه.


ولذلك فإن مجتمعات كثيرة توفرت لها قيادات متحضرة رشيدة تمكنت من مغادرة عالم التخلف إلى فضاء التقدم والرقي في زمن وجيز.


الهمجية والحضارة


الهمجية حالة حيوانية أو قريبة من الحيوانية، يعيشها الأفراد، وتعيشها المجتمعات، وتتميز بالبساطة والعفوية، والخضوع التام للغرائز الطبيعية البدائية للنفس البشرية فتطبع سلوك الهمجي بطابعها في كل ما يفعل ويدع.


وبالمقابل الحضارة حالة من التقدم والرقي يعيشها الأفراد وتعيشها المجتمعات وهي كحالة متقدمة في المسيرة البشرية تتميز بالتعقيد فتطبع سلوك الشخص المتحضر بتقاليد وأساليب تصرف تتميز بضبط الغرائز، وترقية السلوك، ورقي الاهتمامات، والسمو بالنوازع الغرائزية وتصريف طاقاتها في أنماط من السلوك أكثر رقيا وتهذيبا.


وكمثال على ذلك فإن ملاحظة المدن وسلوك أهل المدن والأرياف وسلوك أهل الأرياف في المجتمع اليمني يمكن أن توضح الفكرة.


وعندما أقول أهل المدن، فاني اعني بهم أولئك الذين قطعوا علاقتهم بالأرياف، وعصبيتها العشائرية، وأنماط عيش أهلها منذ أجيال فأصبحوا مدينيين تماما، إذ أن هناك في المدن قبائل وعشائر وريفيون وثيقي الصلة بمجتمعاتهم الأصلية، وعاداتها وتقاليدها، وأساليب تفكيرها وسلوكها، وهؤلاء ليسوا من أهل المدن بطبيعة الحال وان عاشوا فيها. وهذا المقال ليس في ذم البدو وأهل الأرياف والقبائل، وإنما هو توصيف للواقع سيختلف معه الكثيرون، إما تعصبا، وإما بتأثير النزعة الرومانسية التي بالغت في مدح الهمجي والهمجية (روسو)، أو بالغت في مدح مجتمعات الفلاحين (تولستوي) الخ.. ومن ثم بتأثير من تأثر بالرومانسية من الكاتبين بالعربية.


ومن نافلة القول ان في كلا البيئتين المدينة والريف حالات فردية تخالف التوصيف العام إلا أن هذا من الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، فما أصفه هنا يتناول الغالب الأعم.


(2)


لو أنك أخذت سكنيا ضخمة وقطعت قطاعا في منتصف شارع في المدينة كما تفعل مع قالب (الكيك) فانك سترى آثار الحضارة متمثلة في منجزات الهندسة من أسفلت، وما تحته من طبقات من الحصى وغيره، وسترى في الأسفل كابلات الكهرباء، وأنابيب المياه والمجاري، وعلى السطح سترى فنونا من الأعمال الهندسية في المباني، ثم الرصيف وما عليه من أعمده كهرباء وإعلان وأشجار، والشارع المسفلت وما فيه من خطوط وإشارات وفتحات مغطاة للمجاري والمياه والكهرباء، وسترى فنونا من العمارة المخصصة لأغراض متنوعة إلخ. 


وبالمقابل إذا فعلت الشيء نفسه في القرية سترى حالها طبيعية لا أثر فيها للجهد والإبداع البشريين.


(3)


 والحضارة مرتبطة بالجهد المنظم والإبداع الذي يخدم هذا الجهد ويجعله مفيدا، فالمدني الذي يهتم بالتعليم هو صانع الحضارة فكرا و تخطيطا وتصميما، وتجد هذا الإبداع ظاهرا في مختلف جوانب حياته فهو يهتم بالآداب والفنون، والعلوم العملية من هندسة وطب وغيرها. بينما يعيش الريفي حالة طبيعية حيث يحصر همه في تحصيل المال من أي سبيل، وتنمية القوة الهمجية للسيطرة على الآخرين وعلى ممتلكاتهم ضمن تكوينه الاجتماعي العشائري القبلي، الذي يعتبر كل من هو خارج العشيرة والقبيلة غنيمة مباحة، فيمكن له قتله ونهبه. وهي ثقافة كان لها أكبر الأثر في الصراع المستمر بين الريف والمدينة، وهو صراع شهد حوادث مروعه من النهب والسلب والاغتصاب الذي مارسه الريفيون ضد المدن وأهلها في صفحات دامية ومخجلة في التاريخ القريب والبعبد.


(4)


فالمدني يسكن في منزل يتميز بالنظافة، بغض النظر عن الفقر والغنى، بينما يعيش الريفي مع حيواناته في نفس المنزل في أغلب الأحيان، وبينما يهتم المدني برائحة المنزل واستخدام العطور والبخور، يستمتع الريفي بروائح الطبيعة.


ويهتم المدني بنظافته الشخصية، بعكس الريفي الذي لا يهتم كثيرا بهذا الأمر من حيث الملبس على الأقل.


وتجد طعام المدني متنوعا ومعقد الإعداد إلى درجة التفنن، بينما يفضل الريفي اللحوم المسلوقة أو المشوية، والخبز غير المخمر.


وفي تناول الطعام تجد المدني متأنقا فلا يكرع ولا يتحشأ، ويظهر ضبطا للنفس فلا يظهر جوعه خلال تناول الطعام، ويراعي آداب المائدة، بعكس الريفي...الخ


ويتناسب الرقي في السلوك طرديا مع الوضع الاجتماعي للمدني، حيث تكون الطبقات المتعلمة أكثر رقيا في سلوكها من فئات التجار والصناع والعمال الأقل تعليما.


(5)


وفي السلوك تجد لدى المديني أصولا للحديث والتصرف مع الآخرين يعتبر من يخرج عنها قليل الأدب حتى إذا تعرض للاستفزاز، بينما يقوم الريفي بقول كل ما يخطر على باله، ولا تردعه إلا فوارق القوة التي قد ترد عليه تصرفه بأذى مباشر في التو واللحظة، وهو ميال باستمرار لحل خلافه مع الآخر بالقوة العارية والصوت العالي والشتائم.


وفي تربية الأطفال تكثر الموانع والحدود لدى أهل المدن. فيكثر قول لا، ولا يجوز، وعيب، بينما يترك أهل الأرياف أطفالهم ينمون ويتصرفون على سجية غرائزهم ونوازعهم الحيوانية البدائية.


وفي الغايات والأهداف يركز المدني على التعلم واكتساب المعرفة، بينما يهتم الريفي بالمال والسلاح كمظهر للقوة والرقي الاجتماعيين، ووسيلة لتحسين ظروفه ومستواه الاجتماعي، ويستخدمهما دون تردد ضد الآخرين، ولا يمنعه عن ذلك وازع ديني أو أخلاقي.


(6)


ومن الواضح أنه كلما ازداد المجتمع رقيا وحضارة كان التفاوت في السلوك بين أهل مدنه وأهل مدن المجتمع المتخلف كبيرا. ومع ذلك فإن الحضارة ذات طابع مادي أي أنها تتقدم وتنتكس نتيجة للظروف التي تطرأ على المجتمعات البشرية. ولكن الذين اكتسبوا قدرا من التحضر ينقلون ذلك إلي الأجيال اللاحقة.


فنجد مجتمعات أفريقية وأسيوية فقيرة يتميز أهلها بقدر كبير من الرقي والتعقيد في أوجه سلوكهم. حتى لو حول تغبر الأحوال مجتمعاتهم إلى أرياف.


وقد نجد مجتمعات مدينية غنية الآن، بفعل صدفة نفطية مثلا، يعيش أهل مدنها الهمجية بأوضح مظاهرها، على الرغم ما يحيط بهم من أسباب الترف، وذلك لأن الرقى في السلوك يتطلب أزمانا من التعليم والتحضر، ولكن عند ما تنزع هذه المجتمعات إلى الانعزال وعدم الاختلاط بالأمم المتحضرة لأسباب أيديولوجية أو عنصرية، فإن عملية الانتقال من الهمجية إلى التحضر تطول وتتأخر.


(7)


أنتجت مجتمعات البداوة في الجزيرة العربية أيديولوجيات دينية ترى الحالة المثلى في العودة بأحوال المجتمع والناس وأساليب عيشهم إلى ما كانت عليه في القرن السابع الميلادي ،الأول الهجري. وقد كانت مكة والمدينة بيئات أكثر تطورا من البيئة التي أنتجت الأيديولوجية السلفية الوهابية، التي أصبحت تمثل خطرا داهما على المجتمع اليمني، تسعى لحكمه وفقا لصيغة طالبان الأفغانية الموغلة في الهمجية والتطرف.


ولم يكن من الممكن للدولة الإسلامية أن تنتج حضارة ذات بال لو كان حكامها من هذا الصنف البدوي، من المؤكد أن حصر الخلافة في قريش، وهم سكان أهم حاضرة في الجزيرة العربية، وأكثرها تحضرا قد ساعد على سلوك الدولة مدارج الرقي والتقدم، ومكنها من وضع أسس بناء الحضارة الإسلامية، التي قامت على أكتاف أبناء الحضارات العريقة المجاورة المفتوحة.


انطبعت هذه الايدولوجيا السلفية الوهابية بالحالة الهمجية لمنتجيها وحامليها، فعملت الأسرة الحاكمة السعودية بالتعاون مع البريطانيين بين عامي 1926 و 1928 على كسر شوكة الحركة العسكرية، بالقضاء على من كانوا يسمون الإخوان المجاهدين وقياداتهم، الأمر الذي أتاح للأسرة الحاكمة للدولة السعودية إمكانية العمل على تطوير البلاد إلى حد ما، وبما يسمح باستخراج النفط الضروري للمصالح الدولية التي ترعاها.


وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 ، أدركت العائلة الحاكمة السعودية مدى خطر حتى النسخة المدجنة لديها من السلفية الوهابية، فشرعت في سحب البساط الشعبي من تحتها عن طريق نشر شبكة واسعة من القنوات التلفزيونية الفضائية التي تروج لقيم الغرب، وتبث أفلاما أمريكية على مدار ساعات اليوم مجانا، وهو أمر ليس له مثيل. إضافة إلى قنوات كثيرة، بالمئات وليس العشرات، متخصصة في الغناء والرقص الذي تعتبره السلفية رجسا من عمل الشيطان. ولكن مشكلتنا تتمحور حول اندياح الايدويولوجية الوهابية السلفية إلينا عبر الحدود، حيث وجدت بيئة متخلفة تناسب انتشارها. ولكن يحدث ذلك بعد ان ساعد البنرودولار على توطن السلفبة حتى في اكثر حواضر العالم العربي تقدما.

علاقة الريفي بالمرأة علاقة ملكية بالأساس، فالريفي يعتبر الدفاع عما يعتبره ملكه أساس رجولته ومحور كرامته، في الوقت الذي يعتبر فيه أيضا قدرته على التعدي على أملاك الغير دليلا على القوة والرجولة. تماما كما في مجتمعات القرود. ولهذا فإن الريفي، ومن هذا المنطلق، لا يعترف للمرأة بأي حق في المكية كالميراث على سبيل المثال. وعلى الرغم من كونه حقا يفرضه الدين، فهو يضرب بهذا الحق عرض الحائط ويرفض توريث المرأة . وإذا اضطر إلى ذلك فإنه يفرز لها أقل وأردأ ما يمكن من العقارات. حتى أن الأسر في الأرياف بينها اتفاق ضمني على عدم المطالبة بمواريث النساء، حيث يعتبر من يطالب بحقوق زوجته شخصا غير سوي وناقص الرجولة، وهذا بعكس المدني الذي يعتبر إعطاء المرأة حقوقها مفخرة له، ويعتبر حرمانها من حقها منقصة ومسا باعتباره كشخص سوي.


علاقة الملكية التي يفرضها الريفي على المرأة يجعلها عرضة للعنف الشديد من قبل الرجل إلى درجة القتل عند أول اشتباه حول علاقة عاطفية خارج الزواج بشخص ما سواء كانت ابنة أو أختا أو زوجة، وغالبا ما تمر هذه الجرائم دون عقاب، حيث يتواطأ المجتمع الريفي على الجريمة، ويحرص على عدم تعرض المجرم للعقاب. بل أنني اعرف شخصيا عن حالات في قريتي قام فيها الزوج بقتل زوجته لأسباب عاطفية، فيعتبره أهلها بطلا، ويقومون بتزويجه بأختها تعويضا ومكافأة. ويعتبر الزوج ممتلكات زوجته إذا كان لها أملاك ملكا له، فيفك أزماته المالية بالتصرف بأملاكها، مبقيا أملاكه دون مساس.


(10)


صحيح أن الريفي يتمتع بخصال إيجابية كالنجدة والتعاون مع نظرائه عند الملمات، ولكن هذه الصفات إنما هي نتيجة واقعة الاجتماعي العشائري والقبلي، الذي يفرض أنواعا من التكافل الاجتماعي لا بد له من القيام بها كثمن للحصول على رضا الجماعة والقبول به من قبلها وتقديرها له.


وعلى الرغم من أن الفوارق الكبيرة في السلوك والاهتمامات بين المدني والريفي راجعة إلى عوامل سياسية واجتماعية جعلت المدنية مركزا للحكم تصب فيه الخيرات التي ينتجها المجتمع، ويستولي فيها قادة المجتمع المدينيون على نصيب كبير من هذا الناتج، الأمر الذي يتيح لهم التعلم والتأمل والبناء والإبداع، إلا انه تظهر دائما في المجتمع البشري إيديولوجيات تمييزية تؤكد على الامتياز السلالي والعرقي كمبرر للاستحواذ على الثروة والقوة الخ.. وهذا مشاهد في كل المجتمعات حول العالم، ولكن ذلك لا ينفي حقيقة وجود تميز حضاري للمدينة على الريف، وللمديني على الريفي، يظهر في كل نواحي السلوك وأساليب العيش وطبيعة العلاقات مع الآخرين. وهذا التميز يرجع إلى التربية والثقافة وأحوال الاجتماع في المجتمع الإنساني، ولا يمكن أبدأ إرجاعه إلى نزعات التميز الأيديولوجية. ذلك أن ما هو واقع تاريخي واجتماعي لا يمكن القول أنه مجرد ظاهرة أيديولوجية. فالمقولات الأيديولوجية التي تشرع التميز الاجتماعي على أساس من العرق، واللون، والسلالة، والدين والمذهب، يراد بها أن تخدم إغراضا سياسية، ولكن الفوارق بين الهمجية والتحضر قائمة على الرغم من كل ذلك ولا يمكن إحالتها إلى مقولات أيديولوجية، بل هي قائمة على التربية والثقافة وتغير الو

اقع الاجتماعي نحو التحضر الذي لا يثبت إلا عبر أزمان متطاولة من الرقي المستمر.


إعداد وتأليف الدكتور تركي بن عبدالمحسن بن عبيد