تشظى قلبي حال سماعي مصرعك يا (ياسين). فقد مرت عشر سنوات كئيبة ، حزينة ، وباردة ، كبرد ذلك الصباح ، الذي طلعت به الشمس كصخرة معتمة ، وكأنها قد خرجت بعفو مشروط من وادي "ويل" وقد رقدت في قعره آلاف السنين ، ظهرت سوداء الوجه لتسلب نور وجهك الأبيض كبياض قلبك الناصع ، فإرتدته قناعاً ، وإني لأسترق النظر إلى قرصها ظهيرة كل يوم كي أرى وجهك.
لا شيء يشبه ذلك الإشتياق ، لكن ما يخفف وطأته أن الشوق في حضرة الشهادة يصبح جميلاً ، ترك أخي - الشهيد - في رحيله وجع الفقد ، ومعه "ويا للغرابة" تعويضاً لأرواحنا عما ينقصها من طمأنينة ، على الأقل أنا على يقين أنه في مكان ما ، أفضل من هذه الدنيا.
أكتب اليوم عن أخي ، وهنا يتجلى الحب والشوق وما كان من حياة. هنا في حضرة (ياسين) لا أكف عن الضجيج والكلام - رغم سكوتي الظاهري - أقترب منه لأحدثه سراً عن بعضِ كلام لا يعرفه سوانا.
يبتسم ويغمزني وينتصر على الصمت بسكونه وهدوئه.أكتب اليوم عن (ياسين) الذي تغير كل شيء في غيابه ، حتى دقات الساعة الجدارية وتنقلات عقاربها الثلاثة ، أراها "بطيئة" تجر الثواني، والدقائق، والساعات ، بملل.دمية حارس الساعة ، الذي يقرع الطبل الصغير معلناً تمام رأس الساعة ، قد ترك عمله ، ربما استشهد هو الآخر، ففي العراق يرحل كل جميل وذو نظام.
بات كل شيء مختلفاً بعد شهادته ، حتى أنا ، والبيت ، والمدينة ، والحياة ، ولون السماء الذي ترك زرقته ، خارج حدود العراق ، وتطوع الغبار، كي يواري سوءته ، فلا بد من لون يستر أجرام السماء.
لا أذكر الكثير من التفاصيل بيننا، رغم أنها لا تنتهي. ربما يطغى العشق على كل اللحظات التي عشناها معاً ، وتصبح كل الذكريات لحظة شوق ونظرة طويلة إلى كرم الله الذي لا ينتهي.
كانت الساعة تقارب الثامنة والنصف صباحاً ، من يوم الثلاثاء ، ٢٣/١/٢٠٠٧ ، إلتقينا أنا وإسمه العذب بإتصال من مجهول ، قال: ياسين أخوك بالمستشفى قد إسشتهد!! ، ولا أذكر بعدها كيف وجدتني واقفاً على نعشه أتأمل شفاهه المبتسمة ، رغم إصفرارها!.
نظرت إليه دون أن أسكب دمعة ، حيث كنت أُؤمّل نفسي - لعله يكون حلم - لكن هيهات ، فلون الدم القاني يفسد الأحلام .. فتمنيت أن يصحى من رقدته ولو لدقيقة واحدة فقط ، حتى أحظى بعناق أخير، وقبلة، ووصية.
نزل ياسين مسرعاً من ركب الدنيا ، ليلتحق بركب الأبرار شهيداً ، فيكفيه فخراً ، أن العدو قتله غيلةً وغدراً ، بعد أن أتم واجبه ، بحماية ما أؤتمن عليه ، وإنقاذ من كان بتلك الباصات ، بعد أن قطع إرهابيوا منطقة الفضل في الباب المعظم الطريق عليهم ، بسيارة مفخخة، وكانت الغاية أن يُذبحَ من في تلك الباصات لأسباب طائفية.
فأنقذهم ، وبعدها بدقائق رصاصة القناص إخترقت قلبه.
لم تكن المرة الأولى التي يغادرنا ياسين للموت ، ولا المرة الأولى التي يترك فيها أجمل ما لديه ، من أهل، وطفلة كانت لا تزال جنين في رحم أمها ، وصداقات ، فحينها كان يومياً يلامس الموت ، كتجربة ، ويضحك قائلاً : اليوم چا متت إلا شوية!.
لكني لم أتوقع أن رحيله هذا هو الأخير ، رحل ياسين ، رحل وأخذ مني كل شيء ، عدا أنفاسي.
أشتاق إلى ياسين بقدر ما ناحت عليه أُمي.
#مرتضى_المياحي