سالم لديه عداوة شديدة مع حصة الرسم عندما كان صغيراً .. يكرهُ الرسم جداً .. كان يخنق قلم التلوين بيديه
العاريتين حتى تتعرق وتتوتر وتكسر القلم .. قال له زميله : يبدوا أن حتى القلم هرب من يديك .. فبدأ من حينها يعي معنى مُبكر جداً على من هم بسنه .. الهروب .. استيقظ اللسان السؤول .. يا ترى كم من الأشياء قد هربت من يدي ؟ هل سبق وأن اخنقت الكثير من نفسي بين يدي ؟
سالم اشتدّ عوده وأراد لنفسه أن تسلم .. رأى فرسٌ مهونٌ جميل .. لأول مرة تتعلق نفسه بشيءٍ جميل .. هذه الفرس كانت تعود لعمّه .. المهم أن لا يدع نفسه تهرب من بين يديه ..
سالم يعيش بهجة لم ترى عليه منذُ أن كسر قلم التلوين بيديه .. قال أول الخير أن اتصالح مع الرسم .. شخص مثلي يعشق الفن بكافة انواعه واصنافه .. كيف لا يتصالح مع الرسم ؟ .. سأسميها ” رسمة ” ..
على هسيس التبن بجانبها يتحدث معها كثيرا ..
يرى فيها نقاءً كدمعة طفل .. يتوسد التبن بجانبها ولا يعلم هل هي تريد الإنصات له أم لا .. ولكن ربّما مع الوقت سيتعود عليها .. أصبح يحبها جداً ويعتني بها جداً
سألهُ عمّه : ” أنا لا أعلم يا سالم ما سر هذا الاهتمام المبالغ فيه بفرس ، كنت أظنك تريدها ليوم أو ربما يومين .. قد أعطيتك اياها طامعا أن تسلى بها فإنك لم تسلى بشيءٍ منذُ أن خلقت .. لكن الأمر أصبح لا يطاق .. لماذا لا تكون كمن هم بعمرك؟ .. بل لماذا لا تكون إنسانا؟ .. يأنس مع الناس؟ .. انت شاب صالح ولا أرى فيك علّة .. وتعتني جيدا بالمزرعة .. لكن الآن انت فقط بالإسطبل .. تتحدث معى رسمة .. وتأكل مع رسمة .. وتضحك مع رسمة .. ”
رد عليه سالم مبتسماً وهو مشغول بتعبئة دلو الماء لرسمة : ” إنها تصون يا عمي .. إنها تصون ”
– ومن الذي لا يصونك يا سالم ؟ .. هل وجدت مني سوءًا ؟
لا يا عمي معاذ الله .. الزمان يا عمي الزمان ، إن هذا الزمان لا يبتسم إلا طامعاً ولا يضحك إلا سخريةً .. ولا يعطي إلا حزناً وجوراً وظلماً . .
حسناً .. عرفنا الحكاية .. أنت لست صديقا لهذا الزمان وصديقا لرسمة .. بعدما تنتهي من عملك اذهب لجلب المزيد من التبن في فجر الغد ..
وهذا طعام من ابنة عمك غيث .. هي لا تحسن الطبخ ولكن أرادت أن تطبخ لك اليوم .. ماذا ؟ .. كُلْ يا سالم كل ..
بعدما أكل الطعام سالم .. وكان طعاما لا يمت للطعام بصلة .. لقد كانت عملية حيوية فقط .. للعيش فقط .. الأكل لم يكن لذيذاً أبداً .. غيث ابنة العشرين للتو لا تتقن الطبخ .. سألهُ عمّه .. كيف الطعام يا سالم ؟ قال سالم ماذا؟ الطعام الطعام يا ابني ؟ لذيذ .. بل لذيذٌ جدا !.. ضحك عم سالم وترك ابن اخيه بجانب رسمة والتبن ..
استيقظ سالم في فجر ذلك اليوم .. وبقي القليل من الطعام واطعمه لرسمة .. كانت تنظر له غيث من طرف الباب .. بدت غاضبةً كيف أنني أُحضر طعامي له ويطعمه للبهائم .. ولكن سرعان ما تصالحت مع غيث الطباخة السيئة.. إنها تشفق عليه .. ماذنبه المسكين أن يقع ضحية طعامها ؟ وتشفق على نفسها بحكم أن طعامها موضع شفقة .. الغريب بالأمر أن سالم غسل الأواني وجلبها لغيث وبكل بجاحة قائلاً : شكراً .. إن طعامك كان لذيذاً حتى أنني اطعمته لرسمة ..
– ماذا ؟؟
رسمة رسمة ! .. فرسي
لم تجبه بالعفو .. ذهبت صامتةً ونفسها تقول يالهُ من وقح .. يستهزأ بطعامي أمامي بكل هذه السهولة .. يالبجاحته !
المهم ذهب سالم لجلب التبن .. المسافة التي سيقطعها للحصول عليه قرابة ساعتين من قريته .. من عادة سالم أن يتوقف لشرب الشاي بأحدى المقاهي .. توقف عند قهوة ” الأب اسماعيل ” .. كل من في القرية يطلق عليه الأب .. كل المسافرين أباهم إسماعيل إنها قاعدة حياتية وعرفٌ منذ أن شربوا اول فنجان قهوة لديه .. والأب اسماعيل رجلٌ قذر يملك حقد الأولين والآخرين.. وفظّا غليظاً .. وكذّاب أشِرْ .. وبالحديث عن صباه هو من قرية بعيدة جدا .. تم طرده منها بعدما دنّس اسم قبيلته وقتل ابن المختار.. لقد ارتكب الرذائل صغيرها وكبيرها .. ولكن اصبح الأب اسماعيل .. حياته بين فنجان قهوة وشاي .. إن العالم يحتاج الأب اسماعيل.. يحتاج بنو البشر أن يهربوا إلى حقيقتهم مع كل فنجان قهوة ..
صباح الخير !
– مالذي تريده ؟
شاي شاي .. لماذا لا ترد على صباحي ؟
تبدوا صغيراً يا بني .. كم مرة قلت صباح الخير في حياتك؟ .. ومتى وجدت خيرك ؟ .. متى كنت لنفسك خيراً ؟ .. كنت اقولها في شبابي في كل صباح .. أصدقك القول .. لم اطمع بالخير يوما ، خصوصا أنني لم أراه .. فلا تقولن لي خيرًا وأنت لا تعرف الخير .. إن الخير محض كلمة يصدقها صغير السن مثلك.
احدهم يلمس كتف سالم ..
لا تقلق .. هذا هو الأب سالم يكره أن تسلم عليه وأن تصبح عليه .. يكره الصباح والسلام ولله في خلقه شئوون .. يبدوا أنك لأول مرة تأتي هنا..
قل لي من أين أتيت ؟
قرية سالمين جنوبا من هنا
تبدوا بعيدة
بعيدة جدا..
إن الأب إسماعيل من الجنوب .. يقول أن والدته مازالت حية هناك بجانب بقرتها وتحت أنغام حُليها ..
كيف ؟ .. يبدوا كهلاً .. كم عمره ؟
!!أووه .. إننا ما نزال نسأل هذا السؤال له سخريةً .. ويجاوب بإجابة يظن هذا العجوز أنها مضحكة ربما .. يا عم إسماعيل
كم قلت لنا عمرك ؟
يقولها بهدوء وعينه تصب على المارة .. عمري خمسة قبور وصباح أثنين
!أتسمع .. ما هذه الإجابة الباهتة ؟
!تبدوا أكبر من في الأرض إذا
صحيح .. ربما
!الجلاَس يضحكون .. حسنا يا أبانا .. قلنا أين تلك القبور لنزورها
إنها في موطن يبعد عن البعد كثيرا .. فيه الزهور تذبل وتحيا من نفسها من دون أن ترتشف ماءًا يرويها .. حيث انعدام الصوت والكل يصغي .. حيث الحنين يربي الأمل .. والأمل يعتني بأطفال القرية .. رائحة خبز امي ودار أهلي .. كان كل صنيعي أنني اخترت من غير خيار .. إنها تلك اللحظة التي تمتلكها بين يديك ولكنك تعلم أنك مجرد ظرف للعبة القدر .. إنني لأول مرة أنساق لشيء بإرادتي وبقمع إرادتي .. لقد اخترتها عن سائر البقية .. حيث لا فرار من اختيارها ..
الله الله .. تبدوا عاشقا يا أبانا ..
أبدو متعبا يا بني .. أبدوا عجوزا متعبا.