يعجبُ "عبد القاهر الجرجاني" -رائد علم البلاغة- أشدَّ العَجَبِ مِن قولِ "كثيرِ عزّة":
ولمّا قَضَينا مِن مِنى كُلَّ حاجَةٍ *** وَمَسَّحَ بالأركانِ مَن هو ماسِحُ
أَخذنا بِأطرافِ الأحاديثِ بيننا *** وسالَت بأعناقِ المطيِّ الأباطِحُ
وَوجهُ عَجَبِهِ هو كيفَ كانَ لِهذا الشاعرِ أن يربطَ بينَ مسيرِ النوقِ في الصحراء وسيلانِ الماءِ فيها وهما صورتان بعيدتان عن بعضهما؟ صورةُ أعناق المطيِّ الجارية وصورةُ الماءِ السائِل؟ ولا يزالُ الناس عبرَ تاريخِ الأدبِ يتعجّبونَ مِن مقدِرة الشعراء على إنشاءِ تشبيهاتٍ طريفةٍ مُبدِعة.
تقدَّمَ "راما شاندران" Vilayanur S. Ramachandran عالِمُ الأعصابِ الهنديِّ الأصل والذي حازَ جوائِزَ عالميّةً قيِّمة —خطوة أبعدَ مِن مُجرَّدِ التعجُّب، بعدَ دِراسَتِهِ لظاهِرَةٍ مَعروفَةٍ عِندَ قليلٍ مِنَ الناس تُدعى "ظاهِرَةَ الإحساسِ المُتزامِن" Synesthesia حيثُ يرى بعضُ الأفرادِ الأرقامَ مُلوّنَةً كأن يرى أحدُهُم الرقمَ 5 بالأحمرِ دائِمًا، فلو تقدَّمَ هذا الشخصُ إلى مُسابقةٍ ليُميِّزَ الرقمَ 5 مِن بينِ مجموعةٍ كبيرةٍ مِن أرقامٍ مَكتوبَةٍ بخطٍّ رديءٍ عمدًا لجعلِها مُشابِهةً للرقمِ 5 فإنَّ هذا الشخصَ سوف يجِدُ الرقمَ 5 بلمحِ البصرِ وسيسبِقُ الآخرين.
تقولُ الإحصائيّاتُ إنَّ هذِهِ الظاهِرةَ أكثرُ انتِشارًا بسبع مرّاتٍ عِندَ الشُعراءِ مِن غيرِهِم. استعملَ بعضُ العُلماءِ تقنيّةَ التصويرِ بالرنينِ المغناطيسيّ الوظيفيّ fMRI وتخطيطَ الدِماغِ الكهربيّ EMG لدراسةِ مثلِ هذهِ الحالاتِ الشاذَةِ فوجدوا أنَّ إحداثَ مُثيرٍ مُعيَّنٍ مِثلَ عَرضِ الرَقَمِ 5 لا يُسبِّبُ هذا المُثيرُ البصريُّ تفعيلًا للمنطَقَةِ المُختصَّةِ بالأرقامِ في الدماغِ فحسب كما هو مُفترَض بل إنَّها تُفعِّلُ معها مَنطِقَةً أُخرى مُختصَّةً بالألوان، وسمّوا ذَلِكَ بالتّفعيلِ المُتصالِبِ القشريّ Cortical Cross Activation، واقترحوا أن يكونَ سبَبُ ذَلِكَ تماسًّا بين ليفينِ عصبيّين Cross Wiring أحدُهُما يَتَّجِهُ إلى مَنطِقَةِ الأرقام والآخرُ يَتَّجِهُ إلى مَنطِقَةِ الألوانِ في الدماغ بينما هُما في مُعظَمِ الناسِ مُنفصلان.
تقدَّمَ شاندران أيضًا خطوةً أُخرى واقترحَ أنَّ التشبيهَ في اللُّغَةِ ليسَ إلّا تماسًّا بينَ أليافٍ عصبيَّةٍ تابِعَةٍ لِمراكزٍ مُختَلِفَةٍ مِنَ المُخّ، مِمّا يجعَلُ رؤيةَ شيءٍ واحِدٍ تقودُ إلى صورٍ عِدَّةٍ فيَسهُلُ على الشاعرِ أن يربُطَ بينها ولا يكونُ قد بذلَ بذلِكَ أيَّ جُهدٍ أو تلقّى أيَّ تعليمٍ ذي علاقَةٍ وإنّما يَصِفُ ما يرى وما يشعرُ حرفيًّا.
وُجِدَت حالاتٌ مُشابِهَةٌ فيمَن يسمَعونَ لحنًا مُعيَّنًا بلونٍ مُعيَّنٍ فيسهلُ عليهِم تمييزُهُ وهؤلاءِ يتعلَّمونَ الموسيقى بسهولةٍ بالِغَةٍ ويبدعونَ فيها. وليسَ مِنَ الضروريِّ أن يكونَ التمييزُ باللّونِ وإنّما بشكلٍ أو إحساسٍ أو أيِّ طريقةٍ أُخرى، ولكِنَّ النتيجةَ أنَّ فِئةً مِنَ الناسِ يَملِكونَ بُنيةً تشريحيَّةً للدماغِ تُمكِّنُهُم مِن تمييزِ عناصرٍ شَكليَّةٍ أو صوتيَّةٍ أو لمسيَّةٍ أو غيرِ ذَلِكَ، مِمّا يكونُ لدى الآخرينَ غيرَ واضحٍ ولا مُتميِّز.
توسَّعَ شاندران في الفِكرَةِ قليلًا عِندما زارَ الهِندَ وشاهدَ كيفَ يستقطِبُ أحدُ التماثيلِ في معبَدٍ بوذيٍّ السائحينَ مِن مُختلَفِ أنحاءِ العالَمِ و كانَ تِمثالًا لامرأَةٍ نُحِتَ مُنذُ ألفي سَنَةٍ ولا يزالُ يَحتفِظُ بِقُدرَتِهِ على إدهاشِ الناظرينَ إليه.
يقولُ شاندران أنَّ السِرَّ في فَنِّ الرَسمِ والنَّحتِ الذي يجعلُ اللوحةَ تستحِقُّ الإعجابَ وتُحافِظُ عليهِ مَع مُرورِ الزَمَنِ هو مدى التقاطِ الرسَّامِ للفروقِ التي تُميِّزُ موضوعَهُ عمَّا يُشابِهُهُ، وفي مثالِ تمثالِ المرأَةِ هذا فإنَّ سِرَّ الإبداعِ هو إبرازُ ما يُميِّزُ المرأةَ عنِ الرَّجُل، والمُبالَغَةَ في إبرازِ تِلكَ الأجزاءِ الفارِقةَ حصرًا.
وهذا ما يقومُ بِهِ رسّامُ الكاريكاتير الذي يرسُمُ لكَ وجهًا مُشوَّهًا لشخصيَّةٍ مَعروفَةٍ، ثُمَّ يجعلُنا نشعرُ بأنَّ هذِهِ الصورةَ تُشبِهُ صاحِبها رُبَّما أكثرَ مِنَ الصورَةِ الحقيقيّة. يَخلُصُ راما شاندران إلى أنَّ الذي يجعلُ رسَّامًا ما مُبدِعًا هو قُدرَتُهُ على تمييزِ الفُروقِ وتَمثُّلِها في دماغِهِ بوضوحٍ كما لو كانَ يراها مُلوَّنَةً. وَرُبَّما يضَعُ بهذا راما شاندران حجرَ الأساسِ لنظريَّةٍ تُرجِعُ الإبداعَ كُلَّهُ إلى سببٍ تشريحيٍّ في بُنيَةِ الدِّماغ، ولا تكونُ قصيدَةٌ رائعةً مِثلَ قصيدَةِ كثير عزّة إلََا انعكاسًا بسيطًا لتماسٍّ عصبيٍّ في رأسِه.
لَم تسلَم هذِه النظريَّةُ مِنَ الانتقاداتِ حيثُ اعتبرَ عُلماءٌ آخرونَ أنَّ مِثلَ هذا التفسيرِ لا يزالُ مُحتاجًا إلى بحوثٍ كثيرةٍ لتؤكِّدَهُ وإلّا فإنَّها ستكونُ نظريَّةً جامِحَةً مِثلَ خيالِ الشُعراء.