‎أهلاً .. في يومٍ أشتدّ حـَرُّه حتى قبّلتنا سُموم الرياض كأنها عشيقةً لم ترى عشيقها لدهرٍ من الزمن .. وحضنتنا بِمشاعرها المعروفة .. شمسُها وجفافها حتى أصبحنا في مرحلة من الاكتفاء الذاتي والحمدلله .. لم أرى بمثل هذا الحنان والحرارة في حياتي !

‎عدتُ للبيت باحثًا عن الغداء .. ولم تكن عصافير بطني " تُزَقْزِق " كما يقولون .. فهذا تعبير سطحي لمن هو في حالتي آنذاك .. بل كانت حربًا ضرُوس وجيوش ذو عدة وعتاد تمطي احصنتها وتجري داخل ذلك البطن الضعيف وأظن انها كانت حربٌ سِجَال يُغلبون تارةً وينتصرون تارة والضحية جسدي النحيل .. رأيتُ شقيقي الأكبر " عبدالمجيد " بزيّه العسكري قادمًا من العمل يشابهني بحالتي البدنيه من جوع وعاطفة مفرط بها من حر الرياض ولله الحمد ..

‎فجلست أمامه " متربعا " فسلمت عليه ولم يرد علي السلام .. وهي ليست من عادته فهو رجلٌ يقدر الأمور الاجتماعية حق قدرها .. ناهيك عن  أن السلام سُنة وردها واجب .. فكررت ماقلت بصوتٍ أعلى ورد علي السلام بتلك النبرة الشاردة التائهة التي لا يتحلى بها أخي الا لأمر جلل ..

‎فقلتُ مابك ؟ فابتسم ابستامة عريضة هادئة كدقات المطر   .. الأمر بدى غريبًا جدا .. ظننتُ أنه واعد سبعين فتاة ولكن هو أخي وأعرفه .. لم يواعد في حياته حتى نعجة

‎فقال لي " ياولد اليوم قابلت فهد بن سعيد " فانتهت شكوكي والحمدلله بأن اخي اصابهُ الجنون .. لمن لا يعرف فهد بن سعيد مطرب شعبي قديم مات منذُ زمن .. كان يعشقه اخي عبدالمجيد كعشقي لطلال مداح .. بل ان حُبه لفهدًا أعظم من حبي لطلال ..

‎فقلتُ له ساخرًا بأن هذا هو الجوع يا أخي وما يفعل .. فكرر ماقال بنبرة أكثر ثقة وحزمًا " قابلت فهد بن سعيد " فمُجاراةً لعقله المجنون قلتُ له حسنًا حسنًا وماذا حصل ؟ فقال لي القصة التي حدثت معه في صباح ذلك اليوم مع فهد بن سعيد

‎كان اخي العسكري " مرابطا " في المحكمة ويأخذ المساجين للقاضي ويعيدهم لزنازينهم .. فكان في ذلك الشهر متعب جسديا ونفسيا فهو يرافق من صفعتهم الحياة الف صفعة حتى ألقتهم في تلك القضبان من قتلة وممن ارتكبوا جرائم بشعه ولم يريدوا أن يحيوا بعدها أبدًا ..  يعيش معهم يوميا أكثر مما يعيش مع اصدقاءه  .. فاذا لم تكن هنالك مرافعات وقضايا للقتلة وأصحاب الجرائم الكبيرة .. يأخذ السارقين وأصحاب القضايا المتوسطة ان استطعنا تسميتها بذلك ..

‎فكان ذلك اليوم مسئول عن شخص متهم ومسجون للقضية رقم 33 في مسيرته الاجرامية الحافلة بالنهب والسلب والضرب

‎فهو سجل مثير للاعجاب فما صدقت اخي الا أنه اقسم امامي بذلك .. القضية رقم 33 له كانت عبارة عن  ضرب و سلب رجل ماله وسيارته في ظهيرة احد الأيام .. وهو رجل لقيط لا أم له ولا أب ولا بطاقة للأحوال حتى فكانوا يسألونه ماسمك فيقول " فهد بن سعيد " فهو مثل أخي محبًا لوحيد الجزيرة .. ربما غدا يختار له اسم طلال مداح وما أدراني  .. عموما هذي مقدمة استبقتها للتوضيح , حينها اخي لم يعرف عنه أي شيء حتى اسمه لم يكن يعرفه ..

‎فعندما اخذه أخي للقاضي قال له الشيخ : هذه القضية رقم 33 لك يا فهد بن سعيد ,  ضربت رجلا وسلبت ماله وأخذت سيارته

‎فاسمعني ماعندك من قول ..

‎فقال وهو ممتلئ برقة وكبرياء الرجل رغم قباحة مافعل .. يا سيدي القاضي أني رجل أملك كرامة ولن أمد يدي لأحد ففعلت ذلك ..

‎فقال له القاضي : فقررت ان تمد يدك على أحد !!

‎قال فهد بن سعيد : لقد شتمني يا شيخ .. وقال عني لقيطا وابنا للشارع .. فذهبت له وضربته ولا أبرء نفسي من ذلك .. فبعد ما ضربته أخذت محفظته ووجد فيها من المال الكثير .. ولم أخذ الا خمسين ريالا لأنها تسد حاجتي فقط  مع أني كنت استطيع اخذ كامل المال ولكنني رجلٌ شريف.. ومن ثم بعد ضربي له أخذتُ سيارته الفارهة وذهبت لأتغدى ومن ثم ذهبت لأغسل ملابسي وما أن خرجت من " المغسلة " الا وجدت الشرطة ترحب بي بالتهاني والتبريكات وقبض علي وها أنا هنا ..

‎فقال له القاضي : اذا هذه قصتك ؟

‎قال : يا شيخ هذه ليست قصتي .. هذي حياتي لو خرجت الان لفعلتها مرارا وتكرارا والبعض سيبلغ عني والبعض لن يفعل .. لا أملك قوت يومي .. فما رأيك يا شيخ أن تجد لي وظيفة عندك ؟!

‎فضحك الشيخ وسكت وبدى ينظر بمتهم أخر بجانب اخي وفهد بن سعيد .. كان هذا القاضي لديه أسلوب غريب وجميل قبل ما يبدأ بقضية أحدهم .. يذكر آية مرتبطة بموضوعه فكان هذا المسجون متهم من قبل والدته برفع السكين عليها .. فكان يقول القاضي " وبالوالدين احسانا " ويتمتم بها بينه وبين نفسه ..

‎فقال أنت لديك قضية عقوق والدين تم رفعها من قبل والدتك وتقول أنك رفعت السكين عليها من أجل بعض المال ! فما قولك ؟

‎قال بعذر قبيح وهو يعلم والقاضي يعلم بأن والدته لن ترفع القضية عليه كاذبة ..

‎كنت بالمطبخ أقطع بعض الطماطم والبصل فلم يكمل جملته .. الا اتاه " مخمس " من فهد بن سعيد بيديه المقيدة بالاغلال

‎وقدم له فهد بعد صفعته أعذب عبارات السب والشتم أمام هذا القاضي الذي كان يتودد لطفه قبل قليل ..

‎وقال له فهد : تضرب والدتك يا *** .. ليت أن لدي أم يا ***** .. تبغى فلوس أعطيك فلوس الله يلعنك ( وهو فعليا مسجون بسبب سرقته للمال )

‎فيقول أخي كان فهدًا يشتعل غضبا وحرقة والمًا .. هذا اللقيط كان يتمنى أن يعرف والدته .. فقام أخي بسحب فهد بعيدا عن ذلك المتهم

‎.. فأخرجهم جميعا لأنه كان مسؤولا عنهم الاثنين .. فأجلسهم لثواني على كراسي الانتظار .. وعاد لياخذ اوراقهم من طاولة القاضي فدخلت والدة ذلك المتهم الأخر فتنازلت باكية وراجية القاضي ان يغفر له تلك الزله ويعود معها ابنها فهي تبقى ام ..

‎فأخذ الأوراق عبد المجيد وعاد للسجناء ووجد فهد باغلاله و " كلبشاته " يقوم بتطويقها على رقبة ذلك المتهم الذي كان يلاصق ظهره الجدار ومازال فهدًا يقوم بخنقه حتى ظن أخي وهو يراه من بعيد انه سيموت بين يديه .. الناس تنظر ولا تتدخل فمن الغبي الذي سيقوم بتهدئة هؤلاء المساجين ؟! .. فأتى أخي ليفض النزاع وهو يفعل ذلك كان يردد والدمعة بعينه فهد بن سعيد " خله يموت .. خله يموت الكلب "

‎فوضع أخي ذلك السجين الاخر بزنزانته .. واخذ فهد بن سعيد لحديقة المحكمة وقال له فهد بن سعيد  على استحياء " ودي ياخوك اطلبك شي .. وانت والله وجهك وجه خير..عندك دخان ؟" فقال اخي ضاحكا أبشر وهو ابشر فتبدد ذلك الطمع الذي اعتلى فهد بن سعيد واراد صحنًا من الكبدة ويعتليها الجبن و قليل من الماء البارد .. فوافق اخي ليس له ولكن من أجل فهد بن سعيد..  من أشجاه ليلا ونهارا ..

‎مع أنه من الأمور الممنوعة ذلك التعاطف والتهاون .. ولكن هذا فهد بن سعيد !!

‎تركه اخي عند بعض رفقائه العسكر .. وذهب لجلب له بعض الطعام .. وبعد أن أكل وامتلئ بطنه

‎قال له فهد بن سعيد " يا أخي .. الناس مافيهم خير " قال أخي ولماذا ؟ قال فهدًا " دخلت السجن كثيرا ولم يزرني أحد " وضحك أخي وقال انت لقيط !! لا أحد لك بهذه الحياة من الذي سيزورك ؟!

‎قال فهد : كان لدي بعض الأصدقاء فالمسجد .. ربما سيزورونني يومًا "