Image title


أعداء الثورات

بقلم: محمود خليفة


    إن الثورة عمل مقدس ينقشع فيها الخوف من النفوس وتبذل الأرواح رخيصة في سبيلها، والثورة كالزلزال الذي يدك النظام القديم العفن ويستبدله بنظام جديد نظيف، والثورة لا تعترف بأي شرعية سوى شرعيتها.

لكن الثورات في كل العصور، لها أعداء، وهذه بعض الأمثلة:

النظام الذي قامت الثورة ضده

أي نظام قامت ضده ثورة، يعتبر الثورة عمل ضد القانون وضد الشرعية، وسيقاوم هذه الثورة بكل ما أوتي من أدوات القمع والقتل وحصد الأرواح. وطبعا، إذا فشلت الثورة، فلن تفكر الطبقة الحاكمة في علاج الأسباب التي أدت إلى الثورة، إنما ستشيد السجون والمعتقلات وأدوات التعذيب والسحل، وستخرج القوانين المقيدة للحريات أكثر وأكثر؛ حتى تمنع وتجهض أي ثورة قادمة مبكرا...!

وانظر إلى تشييد السجون والمعتقلات في مصر السيسي بعد نجاح الثورة المضادة في انقلابه الدموي في 3/7/2013، وانظر إلى عدد المعتقلين والذي فاق أكثر من سبعين ألف مصري ومن بينهم أطفال وشيوخ طاعنون في السن وشابات، غير الاختفاء القسري والاغتصاب الجنسي والقتل على سرير المعارض ووسط أهله!...

ومن المتوقع من أبواقهم الإعلامية تخوين الثورة ومنْ قام بها، وتتحول ثورة يناير مثلا إلى انتفاضة (خساير)!


رجال الدين

فيما مضى في الإمارات الإسلامية المختلفة، كان العلماء يقفون ضد الحكام الطغاة، وبعضهم دفع حياته ثمنا لموقفه مثل سعيد بن جبير الذي قتله السفاح الحجاج، وكان الأزهر وشيخه ملجأ المظلومين والمضطهدين من الحكام سواء كانوا مماليك أو عثمانيين أو من أسرة محمد علي، وشرارة ثورتي المصريين ضد الحملة الفرنسية، انطلقت من الجامع الأزهر.

أما بعد انقلاب يوليو 1952، فقد شمل التأميم كل شيء حتى الجامع الأزهر وشيخه، وأضحى سيخ الأزهر يعين من قبل الحاكم ولا ينتخب من هيئة كبار العلماء كما كان من قبل، وطبعا، لن يتكلم شيخ الزهر إلا بما يوافق الحاكم الذي عينه.

وحينما قامت ثورة يناير 2011، طلب شيخ الأزهر من الثوار ترك الميدان، واطل علينا شيوخ الخنوع وهم يهتفون بطاعة أولي الأمر، والأمر ذاته تكرر من البابا شنودة الذي وقف مع الطاغية مبارك وضد الثورة، وأمر الشباب المسيحي أن يتركوا الميدان، ولكنهم خذلوه!

فخنوع شيوخ الإسلام لا يختلف كثيرا عن خنوع طبقة رجال الدين المسيحي وغيره.

والإسلام لا يعرف الخنوع، فقد قال الإمام ابن حزم: (الأمام واجب الطاعة ما قادنا بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن زاغ عن شيء منها منع من ذلك).

وحين تولى عمر بن الخطاب خطب قائلا: (إذا رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني) ، فقام رجل في المسجد يهز سيفه ويقول: (يا أمير المؤمنين والله لو رأينا منك اعوجاجاً لعدلناه بسيوفنا هذه)، فقال عمر:  (الحمد لله الذي جعل في هؤلاء الناس من يعدّل عمر بسيفه).

والقرآن الكريم اعتبر الركون إلى الظالمين موجب لعذاب النار، قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}[1].

وروى جابر بن عبد الله، عن النبي صلى اله عليه وسلم قال: "سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، فَقَتَلَهُ"[2].

 

طبقة المثقفين

سينقسمون إلى فئتين:

فئة تقف مع الطاغية تؤيده وتخون منْ قام بالثورة، وهذه الفئة كبيرة الحجم.

فئة ثانية قليلة العدد تلتزم الصمت ولا نجد لهم حسا ولا خبرا؛ وكأنه لم يحدث شيئا، وسيتحدد موقفهم تماما بعد انتهاء الثورة، فإذا نجحت الثورة فسيبدو وكأنهم (ثوار) وسيؤيدون الثورة من كل قلوبهم وبكل ما أوتوا من بيان، وسيهتفون (ثوار ثوار من آخر مدى... ثوار ثوار ثوار...)، وإذا فشلت الثورة، فهم مع الطاغية قلبا وقالبا.

أما المثقف الثائر فمكانه في الميدان مع الثوار، ولن يقبع في سجن عاجٍ يتفرج ويشاهد الأحداث.

أعرف أحد المثقفين اليساريين والذي عمل بمجلة العربي الكويتية ردحا طويلا من الزمن، هذا المثقف وقف في طابور طويل جدا في انتخابات 9 مارس 2011، وكان سعيدا بنجاح ثورة يناير، والعجيب أنه كان من المثقفين الذين زاروا السيسي -المنقلب على الثورة بدموية- في مقر الرئاسة!

وكل المثقفين لا نسمع لهم صوتا ولا نجد لهم قلما يدافع عن (الحق والخير والجمال) الذين شوههم السيسي المنقلب، ولن تجد قلما يدافع عن المظلومين والمعتقلين والمقهورين والمغيبين قسريا والذين تصفيهم وزارة الداخلية بدون قانون كما يفعل رجال العصابات!


الإعلاميون

في الدول المتحضرة، يقوم الإعلام بمراقبة الحكومة وتسليط الضوء على أخطائها، ويقوم أيضا بدور تنويري كبير للشعب.

أما في الدول القمعية وأشباه الدول، فالإعلام يكون دوره هو التسبيح بحمد الحاكم والتقديس له، وتغييب وعي الشعب وتجهيله طبقا لما تأمر به أجهزة المخابرات.

ومن المتوقع، أن طبقة الإعلاميين سيقفون ضد الثورة وتخوين منْ قام بها، وسيطبقون الأوامر التي تملى عليهم من أجهزة مخابرات الحاكم، وانظر إلى الإعلام الرسمي في مصر في ثورة يناير 2011، وكيف خون الثوار وربطهم بجهات أجنبية بدون أي دليل؟!


رجال الأعمال والمنتفعين من الدولة العميقة

هؤلاء سيقفون من الثورة موقف العداء الصريح وذلك لمحافظتهم على الانتفاع الجاري لهم من النظام القديم الفاسد.

وهذه الطبقة تزداد ثرواتهم ازديادا رهيبا مع الأنظمة الفاسدة العفنة؛ لذلك فسوف يقفون ضد الثورة بالمرصاد وبكل ما أوتوا من مال وقوة؛ وهذا ما فعلته هذه الطبقة مع فترة حكم الرئيس محمد مرسي حين سلطوا أبواقهم الإعلامية لتنهش من الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين ومرشدهم وحزب الحرية والعدالة الذي يمثلهم، غير المبالغ الخرافية التي دفعوها مع دول إقليمية (لحركة تمرد) للتمرد على أول رئيس مدني منتخب بعد الثورة.


فئة آخر ربع ساعة من الثورة

هذه الفئة ستركب موجة الثورة في آخر مراحلها عندما يلوح في الأفق سقوط شمس النظام السابق في عين حمئة!

وستهتف هذه الفئة للثورة والثوار بكل قوة حناجرها.


الفئة المتلونة بكل الألوان

هذه الفئة حريصة على مصالحها كل الحرص؛ لذلك فهي تأكل على كل الموائد وتتحالف مع كل الأنظمة الحاكمة المختلفة؛ سواء أكانت ملكية أم جمهورية، رأسمالية أو اشتراكية، علمانية أم إسلامية...!

فلو عاد الملك فاروق من قبره ليحكم مصر، فسيسبحون بحمده ويقدسون له!

 

الفئة المغيبة من الشعب

ستدافع هذه الفئة عن الطاغية؛ ظنا منهم أن الزعيم على الحق، والثوار هم بغاة، وربما يخافون من المجهول الذي تحمله الثورة في أحشائها. 

 

الثوار أنفسهم

أكبر فئة تفشل الثورات هي فئة الثوار أنفسهم؛ وخاصة إذا كانت الأيدلوجية متباينة بين فئات الثوار، وفي هذه الحالة، نجد أن الثورة تأكل نفسها بنفسها!

وانظر إلى جبهة الإنقاذ في مصر وكيف أفشلت الثورة المصرية بتحالفهم مع الفاشية العسكرية وما أثمر هذا التحالف المسموم إلى انقلاب السيسي الدموي في 3/7/2013، وتأمل في حالة الثورة السورية وكيف تحولت بعض الفصائل من محاربتهم للسفاح بشار إلى محاربة بعضهم بعضا!

وإذا عدنا إلى عهد الثورة الفرنسية فإننا نجد أن الثورة كانت تأكل نفسها بنفسها، ففي 21/9/1792 ألغيت الملكية في فرنسا، وفي 21/1/1793 أعدم الملك وسيق الآلاف إلى المقصلة بتهمة معاداة الثورة.

وانقسم الثوار إلى أحزاب، ودار صراع مرير بينهم مثل الصراع بين الحزب الجيروندي والحزب الجبلي، والصراع بين الجيروندي واليعاقبة (أحد المنتمي إلى الحزب الجبلي)، وكان اليعاقبة هم الطرف الأقوى المتطرف بينما كان الجيرونديون هم الطرف المعتدل، ودار صراع دموي عنيف بين الطرفين، وقد وُصف عهد اليعاقبة والذي بدأ في أغسطس 1792 بعهد الإرهاب والذي تمت فيه تصفية اليعاقبة للجيرونديين المشاركين لهم في الثورة ضد الملك لويس السادس عشر، وفي يوليو 1795، دار الصراع دورات أخرى في عهد الإرهاب الأبيض والذي تم فيه سحق وقتل اليعاقبة وزعيمهم روبسبير الثوري (السفاح)[3].    


منشور في جريدة حرية بوست:

http://horriapost.net/article/95946/%D8%A3%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%AA--!





[1] أية 113 سورة هود





[2] رواه أحمد في المسند برقم 6786 وصححه الألباني





[3] انظر إلى كتاب تاريخ الثورة الفرنسية لألبر سُوبول ترجمة جورج كوسي