ثمة أسئلة في أصلها مشروعة ومنطقية، بل قد تكون حافزا للمرء لأن يخوض غمار رحلة البحث ويغوص في بطون الكتب، مقتفيا آثار عقول أصحابها، متتبعا مسار التاريخ حتى يجيب عليها مستشعرا لذة الحقيقة والوصول.
لكنها- تلك الأسئلة- قد تفقد الشرعية ويُنزع عنها ستار القبول، عندما يتم توجيهها بدافع الاستهزاء والاستنقاص وربما تتجاوز ذلك للتزييف والتدليس. ومن أشهر الأسئلة التي طافت على مسامعي مؤخرا هي: لماذا لم تكن هناك حضارة في الجزيرة العربية كتلك التي ازدهرت في دمشق والأندلس؟ بل وصل الأمر لازدراء العرق العربي واصفين إياه بالعاجز وبأنه اعتلا عرش الحضارة قهرا بسلاح الدين وإنه فكريًا عاجز عن إنتاج أي حضارة. بل إنه ادعى حضارة مزيفة عندما استخدم الإرث البيزنطي والرومي.
وللإجابة على هذه الأسئلة يجب أولا تحديد بعض النقاط الرئيسية حتى نكون في صف الموضوعية ،رافعين راية المنطق قدر الإمكان وهي: لا علاقة للجنس أو العرق بإمكانية تكوين حضارة من عدمها، حيث يقول ول ديورانت في قصة الحضارة المجلد الأول: "ليس الجنس العظيم الذي يصنع المدنية بل المدنية العظيمة هي التي تخلق الشعب". وهذا يعني أن متى ما توفرت لعرق ما مقومات النهوض؛ سينهض حتما ويبدع بغض النظر عن انتمائه أو لونه ولغته.
والحضارة في الأصل هي نظام اجتماعي يعين الإنسان على زيادة إنتاجه الثقافي. لكن ذلك النظام الاجتماعي يلزمه قاعدة ثابتة يقف عليها، فلا يمكنه إنتاج أي شيء إلا إذا توفر فيه أربعة: "الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والقاعدة الخُلقية، ومتابعة العلوم والفنون"
ومن المسلمات العقلية والمنطقية أن لا يمكن لأمة ما أن تظهر من العدم وفجأة دون مقدمات على مسرح الحياة بحضارة تؤثر في كل العالم، فلا بد من ظروف تمهيدية سابقة وقديمة، وتحصيل فكري على مدى طويل متوارث بين الأجيال بشكل تراكمي واضعين تجارب الأجيال السابقة قيد التطوير. وهذا ما توفر لدى العرب قبل الإسلام بسنين، فقد عاشت بقعتهم عدة حضارات لا يتسع هذا المقال لتناولها، أمثال حضارة اليمن العربية التي هي أقدم من الرومان، ومملكة غسان وغيرها. إذا هذه الأمة ليست معدومة الإمكانيات والقدرات، وليست بغريبة عن عالم الحضارات وقيادة البشر.
والحضارة تبدأ ملامحها بالظهور والتجلي عندما ينتهي القلق ويبتلع الفناء كل النزاعات، ويسطع نور الاستقرار بشقيه المادي والسياسي. فعندما يستقر المرء وينعم بالطمأنينة، ويضمن قوت يومه يتفرغ للتساؤلات وتشغيل الفكر، والتفكير في كل ما يحيط به فاتحا بذلك أبواب العلوم والفن.
ويبقى السؤال قائما لِمَ لم تكن شواهد حضارتنا الإسلامية في مكة مثلا؟
المعروف لدى الجميع أن عندما اختار نبي الرحمة الرفيق الأعلى كان قد مهد الدرب لدولة تلوح أعلامها في الأفق، وأخبر عن قيامها ونجاحها بعد أن أودع عقول المسلمين الفكر والمنهج، ووطد طريقا ثابتا للأخلاق والقيم من عدل وغيره؛ حتى أصبح لديهم قانون خلقي مدعوم بنصوص شرعية من القرآن والسنة، وهذا يعتبر إحدى مقومات الأساسية للحضارة، فحصول أمة ما على قانون خلقي يمنح لقيامها تربة خصبة متى ما غرست فيها ثمرة نبتت وأورقت وأينعت ببذخ يسلب الألباب. لكن إلى الآن لم تكتمل فسيفساء الحضارة للمسلمين وليزال ينقصها عدة ألوان لا تقل أهمية عن القانون الخلقي.
فعامل الاستقرار ما زال غائبا، أيضا العامل المادي معدما، فقد ذكر ابن كثير في كتابه البداية والنهاية حديث عدي ابن حاتم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد حوار بينهما قال رسول الله لعدي: «لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ".
والمتتبع لخط الأحداث بعد وفاة النبي إلى نهاية خلافة سيدنا عثمان سيلاحظ أن تلك الفترة كانت مليئة بعمليات تأسيس ودفاع عن الدين بحيث لم تهدأ معها تلك المنطقة على الإطلاق. كثير من الأحداث والتجاذبات كانت كولادة عسيرة لحضارة آسره.
فخلافة سيدنا أبي بكر كانت حرفيا مرحلة استعادة الهدوء لتلك المنطقة بعد أن عبث بها التمرد والردة، فأوجبت الظروف على الخليفة سرعة الرد والتجاوب، فكانت عامين من إعادة توطيد وحماية وإخضاع المنطقة من جديد. تبع ذلك خلافة الفاروق الذي عمل على توسيع بقعة الإسلام وزرع للقيم الأخلاقية عماد أي حضارة، وفي هذه المرحلة بدأ العامل المادي بالظهور وفي ذات الوقت بدأت ملامح الحضارة تتشكل شيئا فشيئا، فمتطلبات الوضع الجديد يتطلب ترقية البيئة والأدوات والمزيد من الضبط الإداري لقيام الدولة، فاعتمد الفاروق التأريخ بالهجرة، وأنشأ الديوان، وجند الأجناد وأجرى الأرزاق بعملية إدارية موثقة ومنظمة، كذلك استحدث نظام الشرطة الليلي، وطور القضاء ففصله عن الولاية. وأسس المراكز البريدية في عواصم الأقاليم. وعهد إلى (صاحب البريد) ببعض المهام الرقابية علاوة علي مهمته البريدية المعتادة في نقل الرسائل.
وكل تلك المرحلة السابقة لم تتفق فيها عوامل الحضارة وبقيت ثابتة مرتكزة على الفتوحات التي ستكون فيما بعد سببا لتوفر المعيار المهم والمحرك الأول لأي كيان وهو المعيار المادي لحضارة الإسلام.
تلاه خلافة سيدنا عثمان الذي أكمل طريق تطور الحضارة الإسلامية بذات الصفات السامية فكون مجلسا للشورى، وأنشأ أول أسطول بحري إسلامي لحماية الحدود البحرية للدولة الاسلامية الجديدة والذي سيكون له الدور المفصلي في فتح الاندلس فيما بعد. وكذلك حفظ دستور هذه الأمة من الضياع عن طريق نسخ القرآن ودرء الانقسام عن هذه الأمة -رضي الله عنه-، وخصص دارا خاصة بالقضاء بعد أن كانت تقام الجلسات في المساجد.
لكن بعد النصف الأول من ولايته واجه تحديات كبيرة ودخلت افكار مستوردة ،والخروج عن أمره الذي ادى إلى مقتله فانقسم المسلمون إلى طرفين، طرف مع سيدنا علي الذي اشتغل بحرب الخوارج وانهاء تمرد وليه في مصر، ولم تستمر خلافته إلا لخمس سنوات استشهد بعدها على يد ابن ملجم الخارجي تاركا خلفه كيان تنهشه الخوارج.
والقسم الثاني مع معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- الذي كان واليا لعثمان على دمشق واشترط للمبايعة الأخذ بثأر عثمان الذي لم يكن ممكنا وقتها. واشتد الانقسام وهنا فُقد عامل الاستقرار من جديد، وعاثت الفتن بكل شيء حتى أتت على الدولة الوليدة في تلك المنطقة ومزقتها. ولكن كعادة المحن؛ نتج عن تلك الصعاب أوضاع جديدة ساقت أسباب الحضارة سوقا. حيث استتب الأمر لمعاوية بن سفيان وأتاته كل مقومات الحضارة مطواعة ولأول مرة بعد الإسلام؛ فامتلك المال والموقع والقاعدة الخلقية والنظام السياسي الذي دانت له بها كل أجزاء العرب والعجم، نهض بهذه الأمة وواصل مسيرة الخلفاء من قبله فاتحا البلاد منظما لدولته، فأصبحت الدولة الأموية مسيطرة على أغلب الطرق التجارية الأساسية، فضلا عن أن ربوعها شملت الكثير من المراكز الزراعية والصناعية المهمة التي أغنت وأثرت اقتصادها. فعمل على تقوية الجيش وتقسيم الديوان لوظائف أكثر دقة وبدأ في صناعة الأسلحة، وأورث ذلك الفكر المتفتح لكل أبنائه الذين واصلوا المسيرة من بعده.
لكن بعد وفاة معاوية بن يزيد بن معاوية عادت المنطقة مجددا للصراع، ولم يكن أحد يظن أن هذا الصراع القاسي في ظاهرة سينتج عنه تحول ديمغرافي سيعيد العرب لسكة الحضارة من جديد، فبعد ترحيل كل بني أمية من المدينة قصرا، استقر بهم الحال في دمشق عاصمة السفيانيين، واستطاعوا بحسن سياستهم وتدبيرهم وفنهم في إدراه الحكم أن يخضعوا أطراف الأرض لهم مجددا. وتوليهم الملك كان بمثابة كلمة السر التي فتحت على الأمة أبواب الخيرات، فاستنهضوا الأنفس والعقول في العلوم والبناء كما استنهضوها في الجهاد. حيث بدأت الحضارة الإسلامية على يد أبناء مروان في الصعود حتى زاحمت النجوم في العلو، فبعد أن فرغوا من الفتوحات وجهوا جهودهم الجبارة إلى الآداب والعلوم، فأنشؤوا المدارس والمستشفيات، وأحدثوا نقلة إدارية اقتصادية عندما صكوا الدنانير باللغة العربية ولأول مرة، وعربوا الدواوين، وأنشؤوا دارا لصناعة السفن. ومن أهم الميادين التي اهتم بها بنو أمية هو الفن المعماري، وهنا يأتي سؤال أو اتهام آخر.
هل العرب اقتبسوا من البيزنطيين والرومان أبنيتهم ولم يأتوا بشيء جديد؟
حقيقة يعود للعرب الفضل في المحافظة على الإرث الإنساني الذي وجدوه أمامهم ولم يحاولوا طمسه أو تخريبه كما فعل غيرهم. يقول غوستاف لوبن في كتابه حضارة العرب: "وما ثبت عن العرب أنهم حافظوا على آثار الأمم التي سبقتهم ولم يفكروا إلا بالاستفادة منها، واستطاعوا بالتدريج أن يتخلصوا من المؤثرات الأجنبية بما أحدثوا من تغيير وتبديل في فنون العمارة وفق ذوقهم الفني.".
فكان مبتدأ الأمر أضافوا بعض التعديلات على المباني بحيث تناسب عقيدتهم وشريعتهم الجديدة، ولم يروا بأسا في استخدام المهندسين الرومان وهذا ما ذكره غوستاف لوبون في موضع آخر من ذات الكتاب: "وكان شأن العرب بالنسبة للمهندسين الأجانب الذين استخدموهم في دور الفتح كشأن الرجل الغني الذي يقيم لنفسه بيتا، فكما أن المهندس يرسم بيت ذلك الغني يراعي فيه ذوقه، نرى مهندسي الروم قد راعوا ذوق العرب فيما أقاموا لهم من المباني الأولى فتجلت عبقرية العرب فيها". ولم يلبث العرب بعد أن تحرروا من المؤثرات الأجنبية، أن أصبح لعمارتهم من الأشكال والنقوش الخاصة ما صار يتعذر معه خلطها بغيرها ". بل مع الأيام صار العرب هم من يؤثر في أبنية الآخرين، فاقتبس الآخرون منهم شكلا قبابهم والنقوش وضروب الزينة كالكتابات. والاقتباس من الحضارات السابقة ليست عيبا فهذا ما فعله الغرب تماما بعد استلام دفة الحضارة، أخذوا نتاج عقول العرب والمسلمين ثم أضافوا إليه، لأن الحضارة إرث بشري تراكمي يحق لأي أحد الاقتباس منه وتطويره. ومع مرور الزمن أصبحت كلمة الحضارة مرادفة لبني أمية الذي أجادوا المدنية بكل حرفية، إنجازاتهم تلك كانت ثمرة جهد متواصل، فأصبح نتاجهم قبسا من نور أضاء بقعة أخرى في غرب الكرة وهي الأندلس، حيث استنسخ حفيدهم عبد الرحمن الداخل تجربة أعمامه وأجداده في الأندلس. وكل من يتتبع تاريخ الأندلس سيعرف وبكل وضوح أنها لم تبدأ الأندلس في التطور واستلام دفة الحضارة إلا عندما توفرت فيها كل تلك الشروط التي ذكرناها سابقا مهتدية بخطى الحضارة في الشرق. فلولا دمشق ما كانت الأندلس ولولا أمانة الخلفاء ما كانت دمشق ولولا تبليغ رسول الله ما وجد الخلفاء، فالحضارة تبدأ وليدا صغيرا وتأخذ في النمو شيئا فشيئا حتى تملك العالم، ثم تشيخ ويصيبها الكبر بسبب عوامل السقوط التي تستنزفها لتموت، ولكن تبقى آثارها شاهدة عليها...