في واحد من أصعب البدايات في عامٍ هجريٍ مضى . وفي مستشفى لا يبدو من النوع المتأزم دائما . كانت مناوبتي في الفترة المسائية حينها . غرف الطواري مملكة نحل لا يفتك بها شي . عادة يكثر المرضى من الساعة الخامسة حتى التاسعة مساءاً ويخف تدريجا حتى ينتهي الدوام تمام الحادية عشر . في اليومين السابقين كانت هناك حوادث مميته لشبان في سن الزهور . لحظات صعبة جدا علي عند أستقبالهم ومعاينتهم وكذلك عند قدوم ذويهم وكمية الضغوط النفسية المصاحبه . نعم تعودنا على تلك اللحظات ولكنها عودت قلوبنا على الأنكسار كل لحظة ولحظة . لازلت اسحب نفسي عن التكفير وألجمها على التركيز في العمل وأعطاء كل مريض حقه من الدعم النفسي ورسم الأبتسامة على الجميع وخصوصا الأطفال اللذين حملوا هماً من الأبر حتى أصبحت هماً لا يفرقهم وقصة مرعبة يخبرون كل أقرانهم فيها عند ما يهم بأن يخبرهم بأنه يتألم من شي ما ! حتى الساعة العاشرة وأصوات الطواري لم تٌسمع وجهاز النداء هادئ حتى شككت بأنه لا يعمل وأصريت وقتها على معاينته والتأكد منه فهو لا يبدو أبدا بأنه صديق يعشق الهدوء آو حتى حمل الأخبار الجميلة . ضحِكات الممرضة الفلبينية نحو بأنني اضحيت مهوساً بهذا الجهاز وأنني أرتقب مهاتفه جميلة من أحدهم ليخبرني من خلاله بأن كل شي على مايرام .. كنت دائما آؤمن بالعاصفة اللتي تأتي بعد الهدوء وتعصف بكل الاشياء الجميلة . دقات قلبي علت على غير عادة وأصبحت تؤرقني وزادت من توتري والهدوء يصيبني بالجنون وكأنني أرى شي ما يدنو أو اسمع صوتاً يهذي بداخلي يخبرني بشي ما ! ذهبت الى غرفة الأنتظار الخاصة بالطاقم الطبي وصنعت لي كوب من القهوة اللتي عادة لا استسيغها وأنما املل نفسي بمحاولة تذوقها وربما أقتنائها لاحقا . ماهي الا لحظات وصوت ذاك الجهاز يدوي المكان الرمز الاصفر الرمز الاصفر !! وهو رمز يعني حالة أصابة مرورية والاصابة بليغة ! حبست انفاسي وانطلقت نحو غرفة الأنعاش لتجهيز ما يلزم من أدوات قبل وصول المصاب بسيارة الاسعاف وكان وقت الوصل 5 دقائق لذلك يجب بذل كل ما نستيطع للحاق به . بين كل الخطوات كنت ادعو ربي بأن يستر ويهون أمر المصاب ، وبين كل خطوه وخطوه تتسارع الخطى ، لحظات واذا بالهلال الأحمر يحمل أحدهم على السرير لم أسمع له انينا او بكاء ، وقع ماكنت أخاف منه ، المصاب قد غطي تماماً ، أدخلوه غرفة الأنعاش وتمت معاينته ، أتى الطبيب ورفع الغطاء وقال بكل بروده : المصاب متوفى . هم كذلك يتساهلون كل شي ولا يلقون له بأي إحساس . أقتربت منه كثيرا واذا به شاب لم يبلغ العشرين . ملامح الطفوله تطغوا على كل الدماء ، أعتصر قلبي ألم فضيع . لم أقوى على التركيز به ، تذكرت قوة الفتك الجبارة في حوادث السيارات ، كيف هي الأقدار تذهب بالروح بسرعه . اتممنا عملنا المعتاد . احسست بثقل كبير في كل خطواتي ، اتفكر في حال أهله ، احبابه ، والداه ، أشياء تدمي القلب ، لا تمر بالسهل من امامنا ، يعتقدون بأننا قساه ، لا نشعر ولا نهتز ، لا نبكي ولا نتألم ، مضى الوقت وانشغلت بمرضى أخرين ، امثل امام أعينهم الابتسامة ، وفي عيوني دموع آخفيها تاره وتسقط من خلفهم تارات ، وبعد ساعات ذهب الى الأستقبال ، ابحث عن اي شي يشغلني ، او كوب من الشاهي يدفي جسدي البارد . ممرت من جانب الهاتف اذا به يرن . كأنه ينتطرني لأمر من جانبه . رفعت السماعة واجبت اهلا هنا الطواري ! صوت مخنوق .. تكفى طمني عن ولدي ؟ ااه انها ام ذاك الشاب المتوفى . احسست بأنني في اضعف حالاتي ، احسست بأنني انا من فقد ذاك الشاب ، شعرت بهمها وانا ابدو قاصر امام هذه الام . تمتمت باجابات فقط لكي اشعرها بأني لا اكذب معها ثم اجرحها مرتين ، قلت هو في الغرفة مع الأطباء . قاطعتني وقالت : هو مات ؟ صوت الام وحده كان اقسى صوت اسمعه حدى كتابة هذه الحروف . صوتها يكفي ليهز كيان اقسى القلوب . صوتها كان يذيب الصخر ، اخذت انفاسي ومسحت دموعي وقلت لها يا امي كلنا تحت رحمة الله . ان لم نمت اليوم سوف نموت غدا . وسحبت نفسي من المكالمة وانا اشعر بكل كلماتها تحبسني و لا اقوى على الحراك . يالله ما اعظم الام ، ويالله ما اصدق كلماتها ، وما اجمل احساسها وما ارق تعبيرها وما اصعب واقسى من حزنها . خرجت ليلتها متاخرا عن الوقت الرسمي بساعة ونصف . مضيت ومضت الايام . ولم تمحى هذا القصة من مخيلتي .
عبدالمجيد العتيبي