حكى لنا القرآنُ  موقفَ   العزيز مع امرأته لما تبيّنت له براءةُ  يوسف عليه  السلام، وقولَه لها: (واستغفري لذنبك؛ إنك كنت من الخاطئين)؛ فتساءل بعضُ   المفسرين: كيف يأمرها بالاستغفار، ويُسمّي فعلَها ذنبا وهم قومٌ  ليسوا بمؤمنين؟ ولهم إجابات ليس هذا محلَّ تحقيقها، ولكنْ  من الممكن القولُ -والله أعلم- إن الآيةَ  دلّت على أنه كانت هناك بقايا دين، وأثارة من إيمان في مصرَ  ذاك الوقت، وربما تكون دليلا كذلك على أن هناك قيما، ومعاني، وأخلاقا عليا يُجمعُ  البشر (أو أكثرُهم) على اعتبارها، وهي كلها راجعة إلي الفطرة والميثاق الأول: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذُرّيتَهم).

الذي دعاني لكتابة هذه الخاطرة هو أنني كنتُ   قبل يومين (يوم الجمعة) أُدَرّسُ    زملائي الطلابَ  في الكلية مادة قانون  العقود الإنجليزي (English contract law)، وكان موضوعنا هو اتفاقيات ما قبل الزواج (pre-nuptial agreements)، والتي تحكم الاستحقاقات المالية في حالة وقوع الطلاق، وناقشنا موقف القانون الإنجليزي منها، وأنه كان لا يعترف بها (إلى عام ٢٠١٠)؛ لكي يُقلّل من حالات الطلاق، وليحفظَ  كيان الأسرة (وهي فكرة شبيهة بمقصد حفظ النسل في شريعتنا الغراء)؛ فتطرّقنا للأساس الفلسفي القانوني، وكيف أن القانونَ  هنا -وهو قانون يفترض أنه علماني- متأثرٌ  بالأفكار الدّينية المسيحية.

وفي نفس اليوم (السابعة والربع مساء الجمعة) كنتُ  في مجلس التفسير في كامبريدج، أتدارسُ    سورةَ  يوسف في جمعٍ من الناس، وكُنّا وصلنا إلى قول النسوة لامرأة العزيز توبيخا لها على مراودة يوسف: (إنا لنراها في ضلال مبين)، فكانت هذه الآيةُ  -بضميمة قوله سبحانه: (واستغفري لذنبك)- مناسبةً  للكلام حول دور الدّين في المجال العام، وعن سلطان الدين على النفوس، وتغلغله في صميم جوهر الإنسان، وأنه لا يمكن فصله عن الحياة؛ فهو حاضر بقوة في المجال العام بِتَمَثُّلات مختلفة؛ تارةً  باسم القانون، وأحيانا باسم الأخلاق والقِيم وغيرها. وكل ذلك النقاش كان في ضوء الآيات التي أشارت -ولو من بعيد- إلى بقاء أثر الدين والوحي الإلهي في مجتمعٍ  قيل إِنّهُ  مجتمعٌ  مشرك.

ما الذي أريدُه من كلّ  هذا؟

الفكرة المركزية التي أردتُ  أن تصلَ  هي ربطُ  المشاهدات، والظواهر بالقرآن العظيم ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وبما يحتمله نظمُ  النصّ   المقدس؛ فالقران يُوَجّهُنا: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا)، والسيرُ  هنا عامٌ  شاملٌ، والنظر يشمل -والله أعلم- الربطَ، والتحليلَ، والاستنتاجَ، وأن يكون المرءُ  في حالة مستمرة من التفكر وربط الكون المنظور بالكتاب المسطور: (سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم حتى يتبينَ  لهم أنه الحقُّ).

الدكتور  فريد الأنصاري -رحمه الله- كان يقول إن المُتَعَيّنَ على صاحب القرآن (وكل مسلم هو "صاحب" للقرآن) أن يكون القرآنُ  إمامَه، وأن تكون كلّ  تلك النوافذ التي يفتحها على الثقافات والفنون الأخرى خادمةً  لفهم القرآن وتبليغه. وفي هذا سياق؛ أتذكر البروفسور عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- وكيف وظّف تخصصه -الأدب الإنجليزي- لخدمة مشروعه المختلف تماما؛ فالقضية هي كيف توجه كل معارفك في الاتجاه الذي تريد.

وختاما؛ قرأت مرةً للعلامة البروفسور محمد أبوموسى ما معناه أن الآيةَ التي نقرؤها ونتأملها قد تحتمل أن تكون وعاء واسعا.. ننطلق من خلالها إلى قضايا متشعبة.. وتصل بنا إلى فضاءات أرحب.. تماما كما كان تدريس القانون في الصباح متصلا بتفسير القرآن في المساء!

ودمتم بود.

طارق