بقلم المدون المحامي : إيهاب ابراهيم -
بغض النظر عن العلاقات القائمة في مجتمعاتنا وما يسودها من تشابكات وانحرافات وانتكاسات وحتى ارهاصات سواء على المستوى النفسي او الإجتماعي او حتى الأخلاقي والذي يعتبر المؤشر الصحي والدليل على المستوى الثقافي والفكري والأدبي سواء رداءةً وانحطاطاً او جودةً ورفعةً بالنسبة للمجتمع العربي عموماً والسوري خصوصاً .. ويعود ذلك لعدة أسباب وعوامل داخلية وخارجية سنتطرق للحديث عنها تباعاً ..
لكن المثير والغريب بالأمر أنه ورغم مرور عقود من الزمن بل نكاد نقول قرون طويلة وأيضا رغم الإنفتاح الثقافي والإعلامي والتقني في العقود الأخيرة على شعوب وثقافات البلاد الأخرى في أقاصي الأرض مما مكّنَ من سهولة الحصول على المعلومة والإطلاع على تجارب الشعوب الأخرى التاريخية والثقافية والأدبية بشكل يمكّننا من رفع سويتنا الفكرية والأخلاقية وحتى المادية وخاصة الفنون والأدب بمختلف مشاربها كالأدب الروسي واللاتيني والفرنسي والبريطاني وغيرها .. كأمثلة ..
فماذا كانت المحصلة ربما لا شيء من وجهة نظر الكثير من المراقبين والمحللين أي أننا لم نحرك ساكناً ولم نسعى لأن نكون فاعلين ومنتجين في مستقبلنا وحاضرنا حتى ...!!
هل لهذا الحد أصبحنا سلبيين في ردود أفعالنا التلقائية وفي طرق تفكيرنا ومقيدين في طريقة عيشنا ومواكبتنا للحظات الفرح والسرور والحزن والضعف والإنتصار .. وحتى الإنكسار .. وكل المشاعر والمواقف الإنسانية بسلبياتها وايجابياتها ..
ألم نعد نرى انفسنا أمام المرآة كأفراد وشعوب تستحق الحياة والعطاء والإنتاج .. هل لهذا الحد أصبنا بالخصاء الفكري الأخلاقي بالنتيجة .. لأن الأخلاق هي الدافع والضابط لكل منتج وعمل ايجابي سواء على الصعيد الشخصي او الجماعي ..
والدليل على ذلك أن الفرد عندنا لن تراه متميزاً ومبدعاً ومعطاءاً في ظل منظومة فساد ثقافي وأخلاقي وفكري لأن الظروف والشروط البيئية المحيطة به غير سوية وسليمة بينما في المقابل نراه شخصاً أخر ومختلفاً ومبدعاً وخلّاقاً في طروحاته وحتى هذياناته في بلاد الإغتراب والمنفى وذلك بتغير الظروف والشروط الموضوعية البيئية والمادية المحيطة به .. إنها الأخلاق ايها السادة ..؟
صحيح إنه قيل لنا قديماً بأن فاقد الشيء لا يعطيه ولكن هذا المثل او المقولة او القاعدة ليست مطلقة وإنما نسبية ... فهي مرتبطة بالإمكانات والمقدرات والتطلعات وحتى المساحة التي توفرها له البيئة والتي تنعكس على تطلعاته في المساحة التي يرغب الشخص في امتلاكها وحيازتها وتحقيقها ..!
فجميعنا في بداية انطلاقته لم يكن يمتلك شيئاً يذكر .. أقله إلا القليل من الخيال والإبداع والطموح ممزوجاً بالقليل من الشجاعة والجموح .. فهذا ما يحتاجه أي فرد او مجتمع ليبدأ رحلته في التقدم والتطور المعرفي الفكري على الحد السواء .. ولكن محاطاً بشغاف أخلاقي يكون بمثابة البوصلة والموجّه لتلك البذرة المتمردة في شوقها للعطاء والإبداع والإنعتاق ...
لكن المسار الزمني والتاريخي لأي أمة وشعب قد لا يتجه باتجاه تصاعدي وعمودي .. فليس كل طريق يكون معبداً ومرصوفاً .. والمثال الحي هو واقعنا الحالي في العقود الأخيرة ..ولذلك أسبابه ومؤيداته كما أشرنا سابقاً .. فبالعودة الى واقعنا وتاريخنا القديم نرى بأن العديد من التقلبات والأزمات والإنتكاسات والإرهاصات رافقت تاريخ منطقتنا على إختلاف القوميات واللسانيات والشعوب التي قطنتها وساهمت في بناء حضارتنا او ما يسمى تأريخنا لكن لن نخوض في بحث تاريخي لتلك الإنجازات والبطولات التي صورها مؤرخوها ... سنكون حياديين ومنصفين قدر الإمكان وسننظر للأمر من جانب آخر ..
إن ما يسترعي الإنتباه هو التراجع الكمي والنوعي في المستوى الأخلاقي والفكري منذ ذاك التاريخ وحتى يومنا هذا مع أن منطق الأمور يفترض العكس تماماً وذلك أن التراكم المعرفي والكمي للشعوب في الذاكرة الجمعية يفترض أن يساهم في تشكيل أرضية وذخيرة خصبة للبناء عليها وتطويرها في منحى تصاعدي ..؟ .. نحو الأفضل...
ولكن نتيجة لعدة ظروف وعوامل جغرافية وتاريخية وبيئية وأيديولوجية وغيرها ساهمت في ارتكاسة وانتكاسة الأخلاق في محيطنا بحيث تم تحويل دفة السفينة الى الإتجاه المعاكس .. الى عصور ما قبل الظلمات .. أي قانون الغاب الى حد ما ..؟
الإستعمار والغزو الخارجي كان وما زال أول وأخطر العوامل الخارجية التي ساهمت في هدم وتأخير وتشتيت بنية المجتمع الأخلاقية والفكرية قبل المادية نتيجة لفرض وهيمنة فكر الغازي ومنطقه وسلوكه الأخلاقي وشروطه وقواعده على الساحة الداخلية وعلى الشعب المغلوب على أمره .. خاصة اذا استمر التطبيع فترة زمنية ليست بقليلة ..
وهذا الأمر له تبعات بحيث إن شعوب المنطقة المهزومة ستنحرف عن قاعدة البيانات الأخلاقية والفكرية التي توصلت إليها في مسيرة تجاربها وتفاعلها .. وذلك من أجل توقي خطر المستعمر الجديد حتى يفلت من العقاب والموت في سبيل استمرار الحياة قدر الإمكان ..
وهنالك نوع آخر من الغزو يتمظهر بصيغة الأيديولوجيا الدينية والتي زحفت على أرضنا من مناطق صحراوية بعيدة وقاحلة بعد قدومها مع الفتوحات الدينية التي يحلو لأصحابها بتسميتها كذلك .. على إختلاف مشاربها وأهوائها فقد لعبت دوراً سلبياً في شق الصف وتشتيت منظومة القيم الفكرية والأخلاقية لدى شعوب منطقتنا بما فرضته من أسلوب تفكير عقائدي استسلامي انهزامي رسّخ الفكر المقيد والمخصي والذي يعتمد على الغيب والتسليم الأعمى للعمائم وأقوالها وتفاسيرها .. بعد أن كان انسان منطقتنا يتميز بالإبداع الفكري والخيال الجريء الجامع في تطلعاته وطروحاته .. والدليل هو الإرث الثقافي الميثيولوجي لأجدادنا من أبناء المنطقة ..
.... طبعاً هذا ما يحصل عندما تسمح للأخرين بالتفكير نيابة عنك ..!!
وهذا بدوره صدّع الوعاء الأخلاقي الحاضن للمجتمع وأدى الى انتشار وتكريس عدة مفاهيم ومصطلحات تبريرية ضحلة وحتى قذرة .. كالصبر على الآذى في وجه الحاكم الطاغية والمجاملة التي تحولت الى نفاق ومبدأ سد الذرائع .. والتصفيق بشكل أعمى لما تقوله المرجعيات الدينية حتى ولو كان خاطئاً بالمطلق بحجة عدم الشذوذ عن القطيع وشيئاً فشيئاً تحول التعريف الأخلاقي للسلوك والمشهد الأخلاقي مختصراً ومختزلاً بعدة سلوكيات كإرتياد أماكن العبادة المشبوهة والإلتزام بأداء الطقوس الدينية من صلاة ببغائية وصوم يحاكي الوقاحة في أشكاله وغيرها من تلك الطقوس التي تضرب في جذورها مشارب الوثنية .. وبغض النظر عن القيمة والمنحى الفكري والأخلاقي الصرف الذي يحمله الشخص بين جنباته .. لقد تم الإهتمام بالقشور وعلى حساب الجذور ..!
أما عن عوامل الداخل .. فإن ما زاد الطين بله .. هو تعاقب حكومات على سدة القيادة في بلادنا كان لها الدور السلبي الأكبر في عملية سحق وهدم ما تبقى من منظومة الأخلاق الفكرية والأدبية وذلك عبر ممارسات ونهج سياسي وإداري سلبي بالمطلق كان لا يتوارى عن دس السم في العسل .. او وضع العصي في العجلات ..؟
إن تلك السياسات المتعاقبة والممنهجة للحكومات المتعاقبة منذ زمن الإستقلال عن الإستعمار الديني الأيديولوجي وحتى وقتنا هذا كانت ومازالت تفرز وتلدُ كل ما هو رديء ومتهالك .. إن القرارات والأحكام الجائرة والإعتباطية والتي كانت تتخذ في غفلة من الزمن وخاصة على الصعيد الإقتصادي كان ومازال لها الأثر الأكبر على تردي الوضع الأدبي والأخلاقي والفكري قبل المادي.. للإنسان ..
فالوضع المعاشي المتردي سيؤدي حتماً بصاحبه الى وضع فكري متردي لأن أولويات وهموم ذاك الإنسان ستكون في تأمين لقمة عيشه وسد رمق اسرته وستصبح تلك المنظومة الأخلاقية في خبر كان .. أي تحصيل حاصل وأمر ثانوي ترفيهي .. وهذا بدوره ساهم في تكريس وظهور مفاهيم مشوهة وسلبية .. كالنفاق والتزييف والتزوير والسرقة بأشكال أكثر احترافية والإحتيال بكافة صنوفه وكل هذا وذاك من أجل تحقيق النتيجة او المبدأ الفوضوي .. دبر راسك .. أي انا ومن بعدي الطوفان ..!
أيضاً سياسة الحكومات من الناحية الإجتماعية والإعلامية وحتى الفكرية كانت ومازالت لها قصب السبق في تردي وضع الإنسان الأخلاقي والفكري .. فهي بدعمها لطبقة رجال الدين والعمائم والذين قاموا بدور سلبي وبتحالف مع رجالات السلطة السياسية في احتواء وامتصاص كل ثورة مطلب جماهيري محقة تنبع من تعبير عن إستياء للوضع المزري والمخزي .. هذا إضافة الى ممارسات بعض رجال الدين وتجارها في تشويه صورة المفاهيم الأخلاقية بأكملها..
وهكذا وعلى مدى عقود تم تشويه الوعاء الأدبي الأخلاقي بشكل ممنهج او غير ممنهج .. فأصبح الشخص الذكي والناجح بالمقاييس الحالية هو المنافق وصاحب الثروة والمتملق الذي يغير مبادئه ويوظف أخلاقه وإمكاناته الأدبية في تلميع صورة السلطة ورجالاتها وتجارها في سبيل اقتتات عظمة من هنا او هناك .. ويتناولها بكل شراهة ومن دون أدنى حس اخلاقي .. وأصبح مثالاً للشخص الموهوب الحربوق الذي يحاضر بالأخلاق والشرف وغيرها من الأدبيات وبكل وقاحة وعنجهية ..!!
أيها السادة إن مقولة أن ليس بالإمكان أفضل مما كان هي من نتائج تلك الإرهاصات والإنتكاسات والعوامل والأسباب المشوهة والسلبية التي إبتلينا بها ..لا بد لنا من لحظة وقوف مع الذات لإستشعار الكم الهائل من القرف والإشمئزاز والإنحطاط والإنكسار الذي نعيش فيه .. لا بد من البحث عن الحقيقة المختبأة في ذلك السواد المتشظي .. لا بد من البحث عن العطاء والإبداع والخَلق والإبتكار والتميز . قد آنَ لنا أن نتوقف عن تكرار أنفسنا وأجيالنا عبر سلالات ونسخ مشوهة ومتشابهة وعقيمة التفكير والإبداع ..؟
صحيح إن المعركة غير متكافئة الأن بين الأطراف المتصارعة أي بين الجمال والرقي والسمو والفكر الخلّاق والإبداع والخيال .. وبين الإنحطاط والسلبية والدونية والتردي والبشاعة والخزي .. لكن دائماً هنالك فسحة أمل علينا البحث عنها في مكان ما ..
فبإمكاننا البدء من الأجيال الصغيرة الصاعدة فهم أدوات التغيير نحو الأبداع والإنفتاح والخًلق .. وكما ذكرنا سابقاً إن الأخلاق كانت وما زالت هي البوصلة والموجّه والضابط للعمل والنشاط الإنساني بشقيه الخاص والعام لذلك لا بد من فرض مادة الأخلاق وتشريعها وتدريسها في المناهج الدراسية ومنذ الأعوام الأولى لسنوات الدراسة وذلك بعد استبعاد مادة التربية الدينية بكافة أشكالها والتي أثبت التاريخ فشلها وتأثيرها السلبي أكثر من نواحيها الإيجابية ..
أيضاً الإهتمام والعمل على تفعيل دور الإعلام وبشكل سبّاق واستثنائي لدفع وتوجيه المزاج والذوق الشعبي للإهتمام بالثقافة والهواية والتشجيع على ممارسة نشاطات جماعية وايجابية كالفنون بكافة أشكالها وصنوفها لتخلق روح التحدي والإبداع والخيال وتفجر الطاقات الكامنة في العقول الدفينة وذلك بمساعدة المنظمات الأهلية والمدنية وكافة السلطات المحلية والفردية وعلى كافة الأصعدة حتى تعود الأمور الى نصابها وحتى نبتعد قدر الإمكان عن طبيعتنا الغرائزية .. لنتحول ونقترب قدر الإمكان من انسانيتنا المستلبة والمفقودة بكل وقاحة وعنجهية ..!
اللاذقية بتاريخ 18\8\2016
www.facebook.com/ihab.ibrahem.54
www.twitter.com/ihab_1975
e.mail:[email protected]
gmail:[email protected]