قالَ ابنُ حجرٍ العسقلانيّ الحافِظُ المعروف "إنّني أقرأُ في سِتّةِ عشر عِلمًا لا يعرِفُ العُلماءُ أسماءها فضلًا عَن العامّة".


لا بُدّ أنّ هذِهِ المقولة كانَت مُثيرةً في القرنِ الثامِنِ الهِجريّ ولكِنّها لَم تَعُد كذلِك في أيّامِنا هَذِه، فعلى رأسِ القَرن العِشرين أي عامَ 1900 كانَت المَعرِفَةُ البشريّة تتضاعَفُ كُلَّ مائة عام، وعشيّةَ انتِهاءِ الحربِ العالميّةِ الثانية أي عامَ 1945 أصبَحَت المعارِفُ تتضاعَفُ كُلّ رُبعِ قرنٍ وفي نهايةِ عامِ 2016 وصلنا إلى أنّ المعرِفةَ البشريّة تتضاعَفُ كُلَّ اثني عشر شهرًا، وقد قدّرَت شرِكَةُ IBM الرائِدة في البرمجِيّات والحواسيب أنَّ المعارِفَ الإنسانيّة ستتضاعَفُ قريبًا كُلَّ اثنتي عشرة ساعَة! وإنّ مِنَ الضروريِّ أن أُشيرَ إلى أنّ هذِهِ الأرقامَ تتفاوتُ مِن عِلمٍ إلى عِلم.


وحتّى يولدَ عِلمٌ جَديد فلا بُدّ لَهُ مِن اسمٍ خاصٍّ بِه يُميِّزُهُ عَن غيرِهِ مِنَ العُلوم، وعُلَمَاء يتخصَّصونَ فيهِ وموضوع مُتجدِّد قابِل للاتِّساع ومدارِسَ تُدرِّسُه أو جامِعات وأبحاث ودوريَّات لِنَشرِ جَديدِه، وجَمعيّاتٍ تَضُمُّ عُلماءهُ ليتبادلوا مَعلوماتِهِم ويُدافعوا عنه و يُحدِّدوا حُدوده.


لقَد وُلِدَ عِلمُ النَفسِ (Psychology) مَثلَا مِنَ رحِمِ الفلسَفَةِ (Philosophy) ثُمَّ توالى تَوالُدُ عُلومٍ جَديدَةٍ كثيرَةٍ مِنهُ وآخِرُها عِلمُ النَفسِ الإيجابيّ (Positive psychology) في تسعينيّاتِ القرنِ الماضي على يَدِ عالِمِ النَفسِ الكبير "مارتن سيلغمان" (Martin Seligman) وانضمَّت إِليهِ الأنثروبولوجيا الثقافيَّة (Cultural anthropology) لاحِقًا وهي بِنتُ الأنثروبولوجيا (Anthropology) -علمُ دِراسةِ الإنسان- الذي أنجَبَ عُلومًا كثيرةً مِنها الأنثروبولوجيا البيولوجيّة (Biological anthropology) والأنثروبولوجيا الاجتماعيّة (Social anthropology).


وإذا عُدنا للأنثروبولوجيا الثقافيّة التي اقترَنَت بِعِلمِ النَفس فإنّها وَلَدَت أربعةَ علومٍ أُخرى هي عِلمُ الأثنولوجيا (Ethnology) -دِراسَةُ الإنسانِ المُمتدَّةِ عبرَ الزمَن لعِرقٍ مُعيَّن- وعِلمُ الإثنوغرافيا (Ethnography) -علم وَصف الأعراق البشريّة- وعلم الآثار (Archaeology) -مصادِرُ معرِفَتِنا عَنِ الإنسان- وعلم اللسانِيّات (Linguistics) -دِراسَةُ لُغاتِ البَشر-.


كما اقتَرَنَ عِلمُ النّفسِ بِعِلمِ الاجتِماع (Sociology) فولّدا عِلمَ النّفسِ الاجتِماعيّ (Social psychology) -دِراسةُ تأثُّرِ سلوك الإنسان بمُجتمَعِه- وتزاوَجَ مَع عِلمِ الفيزيولوجيا (Physiology) -علم وظائِف الأعضاء والأجهِزة الحيويّة- فنَتَجَ مِنهُما عِلمُ النّفسِ الفيزيولوجي (Physiological psychology) -دِراسة السلوك المرتبِط بالأعضاء والأجهزة الحيويّة- وهكذا..


ومُهِمّةُ كُلِّ عِلمٍ على وَجهِ العُمومِ أن يَصِفَ الظواهِرَ في حَقلِه ويُفسِّرَها ويَتَنَبّأ بِنتائِجِها ويُحاوِلَ التّحكُّمَ بِها مِن أَجلِ خَيرِ الإنسان.


وعلى سبيلِ المِثال فإنَّ عِلمَ الأنثروبولوجيا السابِقِ الذِكر أو عِلمُ دِراسَةِ الإنسان فإنَّهُ يَدرُسُ جِسمَ الإنسانِ من الناحيَةِ التشريحيّةِ في مَجموعَةٍ ما مِنَ البَشَر ويَدرُسُهُ مِنَ الناحيَةِ الثَقافيَّةِ والاجتِماعيَّة، وذلِكَ لنَفهَمَ الإنسانَ على وَجهٍ أعمَقَ ونَتَنبَّأ بِطُرُقِ تطوُّرِ ثقافاتِهِ ولُغاتِه واتِّجاهاتِها ليتسنّى لنا أن نتعارَفَ ونَتَعايشَ ونَتَعاوَنَ ورُبّما كانَ قولُهُ تعالى"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.." [الحجرات:13] تَلخيصًا رائِعًا لِهذا العِلمِ، وهو يَقِفُ على تُخومِ عُلومِ التشريح والتاريخ وعِلم الاجتِماع وعِلم النّفس.


أخيرًا، أينَ تَقِفُ أُمّتُنا مِن حِمى توالُدِ العُلومِ وتَضاعُفِ المعارِف وواحِدٌ مِن كُلِّ ثلاثَةٍ لا يَزالُ أُمّيًا؟