Image title

لم نكن نجرؤ على إظهار أنفسنا أمامه حين يمر في الشارع ماشيا. ليس لخوف منه، وإنما احتراما له ولمكانته كأستاذ يمنحنا العلم الذي نحن عليه اليوم، وأيضا لأنه فرض احترامه علينا كمربٍ أخلص لمهنته التي اختارها.

هو الأستاذ ناصر بن كوساس، الذي زرع، خلال عمره في المهنة، آلاف الأشجار الخضراء التي أينعت في بقاع الله المختلفة، وهم تلاميذه الذين تتلمذوا على يده، وعلى مذهبه التربوي الذي كان يتعدى مساحة الساعات التي يقضيها التلميذ في المدرسة، نحو السلوك العام في البيت والشارع.

عن نفسي، أعترف بالفضل الكامل لهذا العملاق الذي أعطانا من وقته وجهده وعرقه الكثير؛ أستاذا ومديرا، وكان يعرفنا بالاسم ، ولا يتردد لحظة واحدة في أن يزورنا، أو يبادر إلى استدعاء أولياء أمورنا إن دعت الحاجة إلى ذلك.

في مذهبه، أن ضعف التحصيل الدراسي لدى التلميذ يمكن حلّه بمزيد من الجهد، وبأن يقترب المعلم مسافة أكثر من تلاميذه، غير أنه كان يقرع ناقوس الخطر عندما يتعلق الأمر بسوء الخُلُق، أو ما كان يدعوه “الاهمال”؛ إذ عندها تتبدّى صرامته اللامتناهية، كاشفا عن جانبه التربوي السليم، والذي يقضي بأن تقويم السلوك ينبغي أن تتشارك به المدرسة مع العائلة والمجتمع.

كان ذا بال طويل في معالجة التشوهات السلوكية لدى التلاميذ، ويحاول معهم بكثير من الطرق. ويحذرنا دائما من أن نتهاون بأي سلوك شائن قد نحمله معنا إلى آخر العمر. ويذكرنا أيضا بأن باب الحياة ما يزال مفتوحا أمامنا على مصراعيه، وأن الفرص تقل مع السنوات.

أبناؤه، كانوا زملاءنا في المدرسة نفسها، وكان يعاملهم، تماما، كما يعامل أي تلميذا آخر. ولطالما تذمرنا، نحن وإياهم، من صرامة المعلم “أبيهم” وجديته الكبيرة في إدارة مهمته.

خلال ست أعوام، هي فترة تتلمذي على يديه؛ أستاذا ، كان وجهه يتمثّل لي ولبعض زملائي في كل طريق نسلكها. كان تأثيره حاضرا حتى في غيابه، وكنا نخشى أن نأتي بأي فعل قد لا يرضيه، أو يعتبره خروجا على الآداب العامة أو الخلق القويم أو عرف المجتمع.

لم يكن يعلمنا القراءة والكتابة والعلوم والرياضيات، بل كان أكثر من ذلك بكثير؛ علمنا الأخلاق والسلوك القويم، والعمل التطوعي، وكيف تكون نافعا لمجتمعك. كل ذلك كان يزرعه فينا هذا المربي الفاضل.

وكان يزرع فينا، أيضا، الطموح وكيف نحارب من أجل ما نؤمن به. أتذكره ذات مرة ، وأظنني

كنت في القسم الرابع اساسي ؛ حيث دخل و أعطانا محاضرة في قوة العزيمة وكيف نكون أقوياء في وجه التحديات التي تعترض طريقنا، وأن نؤمن بأنفسنا وبقدرتنا على تحويل أحلامنا إلى واقع. يومها، اقتبس عبارة من احد الكتاب الصحفيين لم اتذكرها ولكني اعلم انها كانت المرة الأولى التي أسمع فيها بالكاتب والصحفي، غير أن الصحافة والكتابة والعبارة وقائلها، انحفروا عميقا في روحي، وكنت أتمثلها في جميع مراحل حياتي كلما حاصرتني الضغوط والصعاب.
هو ذا استاذي ناصر بن كوساس الذي شكّل جزءا كبيرا من شخصيتي وروحي. أتذكره اليوم بالخير والشكر والعرفان، رغم أن ذلك جاء متأخرا كثيرا.